تقليب السجاد المتسخ
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

واضح أن الاحتجاجات الشعبية الإيرانية التي تعْبُر أسبوعها الثاني لم تستهلك حتى الآن الجهاز العصبي للنظام، وإلا ما كان سيتوافر لطهران الوقت والعزم للاستمرار في المشاغلة الخارجية لدول الجوار العربية بنفس الوتائر.

إطالة أزمة تشكيل الحكومة العراقية، وقصف أحزاب المعارضة الكردية، شمال العراق، ومواصلة التحشيد المسلح داخل الضفة الفلسطينية استباقًا لخلافة الرئيس محمود عباس، والبناء في لبنان على تهديدات حزب الله بفتح جبهة فوق مائية مع إسرائيل بشأن الحدود البحرية مع إسرائيل.

نعم توسعت المسيرات الاحتجاجية جغرافيًا وفي عدد القتلى والمعتقلين، وأوحت للبعض بأنها مختلفة عن الانتفاضات السابقة التي حصلت في أعوام 2009 و2017 و2019.

 

لكنها – بالتدقيق أكثر- تعطي انطباعًا بأن النظام المدجج لا يستشعر خطرًا حقيقيًا من هذه التظاهرات، ولديه من الاسترخاء ما يجعله يحتمل أن يخرج من بين قياداته المتشددة من ينصح باستبدال القمع بالاستماع للناس، وما يسمح لوكالات الأنباء الرسمية أن تعرض عشرات الصور اليومية لهذه المسيرات.

في كل الدول الشمولية، ومنها إيران، قاعدة بنيوية تقول إن النظام السياسي عندما يتعرض للتحدي الحقيقي فإنه ينكفئ داخليًا، ويتصرف بقسوة مفرطة تحمل رسائل واضحة لمصادر التهديد الداخلية والخارجية. وهو ما لم يحصل حتى الآن في نظام للملالي يمتلك تاريخًا موثقًا بشواهد العسف، وطوابير القتلى بالمئات والآلاف من المعارضة والمحتجين.

ويروي المرجع الشيعي الراحل آية الله حسين علي منتظري في كتاب له صدر قبل عقدين عن مجازر 1988 التي ارتكبها 5 من أعمدة النظام الإيراني بينهم رئيس الجمهورية الحالي إبراهيم رئيسي، أنه (منتظري) بعث رسالتي احتجاج للخميني اعتراضًا على الإعدامات بالمئات، وعندما لم يتلقَ جوابًا، التقى المشرفين على الإعدامات ليوسع الشكوى.

يقول: ناشدتهم بوجوب أن يوقفوا الإعدامات في شهر محرم، فرد عليَّ قاضي الشرع: ”أعدمنا حتى الآن 750 شخصًا في طهران، وحددنا 200 آخرين.. اسمح لنا بالتخلص منهم وبعد ذلك سنستمع إليك“.

النظام الإيراني واضح أنه لا يستشعر الخطر من الاحتجاجات الحالية، وإلا لما كان اكتفى حتى الآن بأقل من 80 قتيلًا، ويمكن أيضًا القول إن طهران رغم اتهامها التقليدي للولايات المتحدة، إلا أنها تشعر أن دور واشنطن في التحريك أو التحريض على المسيرات يكاد يندرج ضمن لعبة المماطلة التي يتشارك النظامان (الأمريكي والإيراني) في إدارتها باستخدام ملف النووي وموضوع تجديد اتفاقية 2015.

تم التوافق على تأجيل أي اتفاق محتمل ضمن محادثات فيينا، لمجموعة 5+1 إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية، في نوفمبر المقبل، ولعل الدور الأمريكي في حراك الشوارع الإيرانية يقع في هذه المستديرة وفي مقتضيات تعبئة الفراغات الزمنية.

لقد اكتفت واشنطن في تعاملها مع الاحتجاجات الإيرانية بأن شجعت الملياردير ”إيلون ماسك“ على أن يزود الإيرانيين بالإنترنت عبر شركة ”ستارلينك“ التابعة لشركة سبيكس إكس.

قدمت للإيرانيين هذه الخدمة الاتصالية التي سبق وقدمتها للشوارع العربية قبل 10 سنوات، مع معرفتها المسبقة أن تجهيزات ”ستارلينك“ تحتاج في إيران لأجهزة إرسال قصيرة المدى للارتباط بالأقمار بشبكة الصناعية، وهي تجهيزات غير موجودة.

أيضًا مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان لم يجد بين يديه لدعم الاحتجاجات الشعبية الإيرانية أكثر من القول: ”سنواصل الحديث بهذا الموضوع يومًا بعد يوم، لأنها مسألة تتعلق بالعدالة الإنسانية، والكرامة، والحقوق“.. أرادها مجرد حديث.. ليس بوتيرة يومية وإنما يومًا بعد يوم.

الشك بأن لأمريكا دورًا في الأحداث الإيرانية كان له في السياقات السياسية له ما يبرره في المستجدات العالمية الجامحة التي بالضرورة لن تستثني الشرق الأوسط وجواره، والتي عممت انطباعًا بأن ”الماء الإيراني موضوع على النار“.

ولذلك شاعت تقديرات محسوبة بأن الاحتجاجات على مقتل الفتاة الكردية ”مهسا أميني“، على أيدي شرطة الآداب، ربما تكون شرارة تغيير حقيقي في النظام الإيراني، وأن توقيت إطلاقها أو انطلاقها يأتي في سياقات تغيير مستحق على النظام العالمي.

وكان التقدير أن سيناريوهات ما بعد حرب أوكرانيا تتضمن فك وإعادة تركيب بعض المنظومات الأممية، ومنها التي انخرطت فيها إيران في محيطها وسط آسيا والشرق الأوسط.

وزاد في منطق الجدل بهذه التقديرات، أن انطلاق الاحتجاجات الشعبية الإيرانية جاء مع قرب تنفيذ نتائج الاستفتاء في أوكرانيا على انضمام  4 مناطق منها إلى روسيا، وهي خطوة تعني تغيير قواعد اللعبة. بمعنى أن الاحتلال والانفصال الجغرافي سيضحي مسألة عادية قابلة للنقاش أو التنفيذ بالقوة، بما في ذلك من راهن على إمكانية أن يتحول الغضب الكردي على مقتل ابنتهم ”مهسا أميني“ إلى ثورة شعبية حقيقية تكون بداية انفراط عقد الأقليات (ومنها الكردية) في إيران.

لكن هذا الرهان لم يصمد طويلًا بعد أن تأكد أن الولايات المتحدة لا تفكر به أو بمثله مما يمكن أن يؤدي إلى تداعي نظام الملالي، ودخوله بنفق التشظي والانكفاء الداخلي، فقد اقتصر التأييد الأمريكي لانتفاضة الشوارع الإيرانية على ”الحكي“، وتشجيع الفتيات على حلاقة شعرهن على الصفر.. تأييدًا لما سمي بانتفاضة الحجاب.

أيضًا.. قبل أيام من احتقان الشارع الإيراني بشعارات إسقاط النظام والموت للمرشد الأعلى، كانت طهران في قمة شنغهاي، إلى جانب الرئيسين الروسي والصيني، وكذلك الهند، وتركيا، ومجموعة من دول آسيا، التي تراهن واشنطن على إمكانية تفخيخها وتلغيم الجسر بين روسيا والصين.

في ختام القمة، جاء إعلان سمرقند ليتبنى النظام العالمي الجديد الذي تدعو له روسيا والصين وإيران، بالترويج لأهمية وجود عالم متعدد الأقطاب يلغي القطبية الغربية الواحدة.

وكان طبيعيًا أن تنشأ فوق هذا المشهد تقديرات بأن واشنطن ربما تكون تفكر باختراق منظومة ”شنغهاي“ من خلال طهران بتصنيع ”ربيع فارسي“ يكرر تجربتها مع الربيع العربي، لكن بحسبه أكثر دقة. وساعد على ترويج هذا الجدل، اندلاع القتال الحدودي بين أرمينيا وأذربيجان من جهة، وبين قرغيزستان وطاجيكستان من جهة أخرى. وبذلك أصبحت خطوط التماس الدولية وكأنها جميعًا وُضعت على النار بانتظار أن ينفجر أحدها ليزيح الكاميرا قليلًا عن أوكرانيا.

وكان التصوّر أن التجهيز الأمريكي للنظام العام الجديد الذي سيعقب الحرب في أوكرانيا، ربما يتضمن تغييرًا من درجة ما في النظام الإيراني، وأن انتفاضة الحجاب الراهنة هي الحجر الأول في دومينو التداعي لهذا النظام.

لكن الخط البياني للحراك الشعبي الإيراني عمم الانطباع بأن ما يحصل في إيران، هو حتى الآن مجرد تمارين في مواجهة الاحتقان، أسماها الناطق بلسان الخارجية الإيرانية ناصر الكناني، بـ“الحركة المتعارضة المتضاربة“، فهي من جهة أولى تحظى بتصريحات دعم أمريكي، لكن إدارة الرئيس بايدن لا تتردد في نفس الوقت بأن تبعث لطهران برسائل سرية عبر أطراف ثالثة، كما كشف وزير الخارجية الإيرانية الموجود في نيويورك.

التغيير الوحيد المنظور في القيادة الإيرانية، هو خلافة مجتبى خامنئي لوالده في موقع ولاية الفقيه، فهو مشروع مشكلة حقيقية في صلب العلاقة بين الملالي والحرس الثوري، مشكلة بنيوية يمكن أن تطول لسنوات لو كانت الإدارة الأمريكية في وارد أن تشتغل بها، لكن ليس هناك ما يشير إلى أن واشنطن استهلكت مصلحتها في رعاية المشروع الإيراني في خلخلة دول الجوار.

أما الرهان على أمريكا في أن تجعل مسيرات الحجاب الإيرانية طلقة الصفر لتغيير نظام الملالي، فلم يثبت أنه في محله، وإن لم ينتهِ، فالربيع الفارسي يبدو -حتى الآن- مجرد تقليب للسجاد المتسخ.

زر الذهاب إلى الأعلى