خُذ العلم من رؤوس السلاحف
الوقوع في أخطاء اللغة وقواعدها وأحكامها على اختلافها يمكن أن يكون بالنسبة إلى الأكاديميين والمؤلفين المحترفين نادر الحدوث
النشرة الدولية –
العرب –
لاقت الأخطاء التي تخلّلت الكتب المدرسية في تونس للعام الدراسي الجديد الكثير من السخرية والتهكم والاحتجاج من قبل أولياء الأمور، وأفرد لها رواد وسائل التواصل الاجتماعي مساحات شاسعة على حساباتهم، كون تلك الأخطاء كثيرة ومشينة ولا تغتفر.
أدت بعض الأخطاء التي ارتكبها مخترعون وعلماء على مر التاريخ إلى اكتشافات أكبر، وليست كل الأخطاء بالطبع؛ فمعظمهم لم يرتكبوا أخطاء غبية تنم عن تفكير محدود أو قصر نظر، خصوصاً في المعارف البديهية.
الوقوع في أخطاء اللغة وقواعدها وأحكامها على اختلافها يمكن أن يكون بالنسبة إلى الأكاديميين والمؤلفين المحترفين نادر الحدوث، لكن ما يثير القلق أن الأخطاء التي ارتكبت في الكتب المدرسية بتونس كانت فادحة وبشكل مفرط، وفي غاية الوضوح؛ حيث لم تقتصر على كتاب اللغة الفرنسية للسنة الثالثة من التعليم الابتدائي الذي وردت فيه العشرات من الأخطاء، بل طالت مختلف المواد المدرسية.
الأسوأ من ذلك هو الأخطاء التي وردت في المناهج العربية، والتي تنم عن جهل شامل باللغة الأم، في الوقت الذي يتوجب فيه على الذين يعدون الكتب المدرسية أن يكونوا من ذوي المعارف العميقة والخبرة العلمية والبيداغوجية، ولا يمكن أن تسند مهام تأليف الكتب المدرسية، بشكل عشوائي، إلى الهواة وقليلي الخبرة.
شخصيا ألجمتني الدهشة، بعدما اطلعت على أخطاء فادحة، وكدت أعتبر الأمر مجرد مزحة ثقيلة. ومن الحماقة بالطبع أن يصدّق المرء وُرود هذا التعبير المضحك “سلمى تحس بالسخانة” في كتاب القراءة لتلاميذ المرحلة الابتدائية، لكن “عش رجبًا… ترَ عجبًا”، فقد أصبحنا نرى ونسمع ألفاظا ومفردات مخالفة لمنطق اللغة، وقد لا تكون معانيها واضحةً للغاية، بل تبدو حمقاء تماما في السياقات التي استعملت فيها.
صادفت أخطاء أخرى كثيرة جعلتني في حيرة من أمري، أسأل نفسي إن كنا فعلا قد شرعنا في تطبيق إستراتيجية تعليمية جديدة، مستقاة من المثل الشعبي التونسي “خذ العلم من رؤوس الفكارن (السلاحف)”!
على أي حال، لا يشكل ما سبق رأيا شخصيا، بل نوقشت هذه السقطات بشكل علني وصريح، من قبل عدد من السياسيين والمعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن معظم الآراء فاحت منها رائحة المؤامرة السياسية، وهي التعلة الأسهل، لإهالة التراب على الجهل والفشل اللذيْن يعاني منهما قطاع التعليم الحكومي في البلاد التونسية.
القضية هنا لا تتعلق فقط بـ”الأخطاء اللغوية والمعلوماتية” في الفروع المعرفية، أو بإستراتيجيات وأدوات التعليم التي عفا عليها الزمن، بل بالنظام التعليمي الذي تسيطر عليه العقلية الجامدة والميل الدائم إلى التفكير داخل الصندوق، وعدم تكبد عناء تعلم الدروس من الأخطاء والإخفاقات المرتكبة لتلافيها، ولا من نقاط القوة للمحافظة عليها وتنميتها.
ثمة نظرية تسمى “تأثير النعامة”، لا تجسّد ما هو سائد في تونس فحسب بل تنطبق على عدة بلدان عربية أخرى، أصبح فيها التعليم ذا سمعة سيئة، والمنتمون إلى هذه النظرية لا يجيدون سوى وضع رؤوسهم في الرمال، ولا يمتلكون الشجاعة الكفاية للاعتراف بالخطأ وتحمّل نتائجه، حتى في الأمور التي تُعتبر قضية حياة أو موت.
وفي ظل وجود فشل سياسي وإخفاقات حكومية في التوصل إلى قرارات تعالج المشاكل الأكثر إثارة للقلق، من الصعب على منظومة التعليم الفاسدة أن تتعامل بشكل مناسب مع التحديات والأزمات الشديدة التي تعاني منها، لكن تبقى الآمال معلقة على الأجيال القادمة.