العمر لحظة
بقلم: أميرة ملش
النشرة الدولية –
الدستور المصرية –
فيلم «العمر لحظة» من أكثر الأفلام التى تأثرت بها وأنا طفلة فى الثمانينيات، كان الفيلم يعرض دائمًا مع ذكرى انتصار أكتوبر، مما جعلنى أرتبط بحرب أكتوبر عاطفيًا وإنسانيًا بشكل كبير.. الفيلم كان عام ١٩٧٨ وقامت ببطولته الفنانة الراحلة ماجدة التى كانت تقوم بدور صحفية، ولا أخفيكم سرًا أن هذا الفيلم جعلنى أنظر لمهنة الصحافة بتقدير كبير واحترام، بشكل عام، خاصة النساء الصحفيات، وربما هو سبب شغفى وحبى للمهنة العريقة.. كانت فيه الصحفية «نعمت» تقوم بدور كبير بعد هزيمة يونيو القاسية وأثناء حرب الاستنزاف، لأنها لم تفقد الأمل، وكانت ترى حتمية المعركة لاسترداد الأرض والكرامة.
كانت شخصية شجاعة للغاية، وقد حرضتها شجاعتها على مواجهة زوجها رئيس التحرير الذى كان رجلًا انهزاميًا ومقالاته دائمًا تدعو لليأس والاستسلام للهزيمة.. أما كرامتها فجعلتها تنفصل عنه بعد علمها بزواجه من أخرى، ولأن مبادئ الإنسان لا تتجزأ فشجاعتها وكرامتها كانتا دافعًا لها للتطوع فى أحد المستشفيات لخدمة المصابين من الضباط والجنود أثناء حرب الاستنزاف، لإيمانها بضرورة الحرب واسترداد سيناء وامتنانها لتضحياتهم، وأثناء عملها فى المستشفى قررت أن تكتب عن بطولات هؤلاء الرجال، ولكن من خلال أمهاتهم وزوجاتهم وأبنائهم، وقابلت واحدة من أمهات المصابين على جبهة القتال، وقالت لها الأم جملة فى غاية الحكمة والجمال عندما سألتها «نعمت» عن مشاعرها وابنها فى الجبهة يحارب: «الدم غالى والتراب غالى»، كنت أتذكر هذه الجملة كثيرًا أثناء حرب الجيش المصرى وقوات الشرطة ضد الإرهاب فى سيناء طوال السنوات الماضية.
وكلما أُعلن عن استشهاد أبنائنا الذين استقبلوا نيران الإرهابيين فى صدورهم وهم يحمون أرض الوطن من أى عدو يدنسها كنت أجد لسانى يرددها.
مشاهد كثيرة يحتويها الفيلم تجعلك ترتبط بالحرب وانتصار أكتوبر رباطًا إنسانيًا شديدًا، وتذكرك أنها كانت، ولا تزال، معجزة بكل المقاييس، ومن أجلها ضحى خيرة شباب مصر ورجالها بحياتهم، وأكثر هذه المشاهد مرارة هو مشهد مدرسة بحر البقر، حينما قصف الطيران الإسرائيلى المدرسة التى تقع فى محافظة الشرقية، وقتل التلاميذ والمدرسين وهم فى الفصول عام ١٩٧٠ واستشهد الكثير من الأطفال وأصيب آخرون، وأعتقد أن الأطفال المصابين عانوا كثيرًا حتى يعودوا لطبيعتهم بعد ما حدث لهم وبعد مشاهدتهم زملاءهم شهداء تغطيهم الدماء، وتصاحب المشهد أغنية حزينة ولكنها بديعة من ألحان الراحل بليغ حمدى وكتبها الشاعر فؤاد حداد ويغنيها كورال الأطفال، وكأنها ملحمة يغنيها أطفال بحر البقر بأنفسهم، وكانت تقول: «بلادى يا بلادى أنا بحبك يا بلادى.. محافظتى الشرقية ومدرستى بحر البقر الابتدائية.. وكراستى مكتوب عليها تاريخ اليوم مكتوب على الكراس اسمى.. سايل عليه عرقى ودمى من الجراح اللى فى جسمى.. ومن شفايف بتنادى.. أنا بحبك يا بلادى»، وكنت أبكى كثيرًا فى هذا المشهد من رؤية الأطفال الشهداء والدماء تغطى كتبهم وشنطهم وملابسهم، وكنت أشعر بالغضب وضرورة الثأر وحتمية الحرب مثل «نعمت» بالضبط.. لذلك فإن هذا الفيلم يعد من أهم الأفلام التى خلدت تلك اللحظات المريرة، وجعلتنا نتخيل ما حدث بصورة قد تكون قريبة جدًا إلى ما حدث على أرض الواقع.
وكذلك مشاهد المعارك التى يُستشهد فيها أبناء مصر، والتى شاركت فى أحدها الصحفية «نعمت» عندما ذهبت للجبهة ورقصت مع الجنود فى حفلة وهمية لخداع العدو، بينما يتسلل الجنود لشن هجوم على العدو الإسرائيلى فى إحدى العمليات والمعارك التى سبقت حرب أكتوبر، وكان هناك جندى يهم بالمغادرة فى إجازة قصيرة بعد انتهاء العملية ليتزوج، وكان يقوم بدوره الفنان الرائع «أحمد زكى»، رحمة الله عليه، وجاء استشهاده فى اللحظة التى تنتظره فيها عروسته بفستان الزفاف، وكانت أمه هى صاحبة المقولة العظيمة «الدم غالى والتراب غالى»، وكأنها عندما قالتها كانت تشعر بقرب استشهاد ابنها.
وكانت تصاحب الأحداث قصة حب رومانسية للغاية بين الصحفية «نعمت» و«محمود»، ضابط الصاعقة فى الجيش المصرى، الذى تعرفت عليه وهو مصاب فى المستشفى، وارتبطت به وبطفلته «داليا» التى غادرت أمها الحياة مبكرًا وتركتها له، ولعل ارتباط «نعمت» بالضابط كان جزءًا من اهتمامها وإيمانها بدور هؤلاء الأبطال، فكل واحد منهم يترك أهله ومحبيه وأبناءه ويذهب للمعارك غير مبالٍ بشىء سوى تحرير الوطن وحب البلد الذى هو أعظم عندهم من أى شىء، وكانت ترى فى محمود نبل وتضحية كل هؤلاء، ثم تشتعل المعركة وتقوم الحرب وتعبر مصر للضفة الأخرى ويحررها جيشها، وتذهب الصحفية من جديد للتطوع فى المستشفيات، ويضعها القدر فى موقف شديد القسوة عندما تجد حبيبها مصابًا ويحتضر، ويوصيها بابنته اليتيمة ويفارق الحياة.
صحيح أن هناك أفلامًا أخرى عن حرب أكتوبر المجيدة ولكنها ليست كثيرة، وقد يكون ذلك بسبب السرية التى تحيط حتى الآن بخطط العمليات العسكرية، ولكن «العمر لحظة» يظل أقوى هذه الأفلام عمقًا وتأثيرًا بالنسبة لى، لدرجة أننى كنت أتجنب مشاهدته بعض المرات بسبب حالة الشجن التى يضعنى فيها، ولأنى كنت طفلة فقد رسخ عندى فكرة الانتصار العظيم الذى حققته حرب أكتوبر، والتضحيات الكبيرة التى قام بها رجال الجيش المصرى حتى تعود لنا سيناء، ولنتذكر دائمًا أن الاحتفال الذى نقوم به كل عام فى يوم السادس من أكتوبر كان ثمنه باهظًا، كان الثمن أرواح ودماء رجال الجيش المصرى العظيم الحصن والأمان، ونحمد الله كل ثانية على نعمة هذا الجيش، الذى كان له موعد لم يخلفه مرة أخرى فى سيناء، وقام بنفس الدور وطهّرها من العصابات الإرهابية التى كانت تريد استوطانها واستقطاعها من مصر، ودفع نفس الثمن من الدماء والأرواح.
وهذا العام هو الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر، خمسون سنة نصرًا وشرفًا وكرامة وإلى آخر الزمان، مع رسالة واضحة وضوح الشمس للجميع مَنْ يقترب يحترق.