متحف الشيخ زايد للتراث البحري شاهد أثري وثقافي حي
النوخذة صالح حنبلوه: تاريخنا مع البحر يطبع ماضينا ويرسم مستقبلنا
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
صنفت بعض الأعمال البحرية في الإمارات كتراث مادي أو لامادي للبلاد، ولم يفقد البحر قدرته على تعليم الإماراتيين وسرد تاريخ أجدادهم، وهي قدرة يمارسها البحارة القدامى الذين يرون في البحر أسرارا من تراث الإمارات وثقافتها، فلا يجب أن تنسى وعليهم نقلها إلى الأجيال الناشئة وإلى العالم الخارجي.
“سيقولون بعد زمن طويل: هنا كانوا، هنا عملوا، هنا أنجزوا”، هي كلمات بسيطة تختزل حديث العالم المستقبلي عن دولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة التي تعد حديثة العهد مقارنة بجيرانها العرب، لكنها ارتقت إلى مصاف الدول المتقدمة، وهي وإن طغت التكنولوجيا على ملامح الحياة اليومية فيها، تظل كل إمارة من إماراتها السبع متمسكة بتاريخها وتراثها، الذي هو أيضا تاريخ الإمارات المشترك، وتقدمه في كل المحافل الكبرى المعنية بالتراث والثقافة.
ومن عناصر هذا التراث المشترك الصيد البحري وتجارة اللؤلؤ التي كان يقوم عليها اقتصاد الإمارات قبل نشأة الاتحاد وحتى بعد ذلك بسنوات، وتحديدا إلى حين اكتشاف النفط وتخلي الدولة عن تجارة اللؤلؤ كرافد أساسي لاقتصادها. وهذا التراث يمثله متحف الشيخ زايد للتراث البحري الذي يحتفل هذا العام بمرور عشرين عاما على انطلاقه.
دروس توجه المستقبل
صالح حنبلوه: تراث بلادنا يكشف للآخر جوانب من حياتنا قبل النهضة
تصف الكلمات التي أوردناها سابقا، إلى حد كبير حديثنا عن البحر في حياة الإماراتيين قديما، فالأساليب التقليدية للإبحار والصيد والبحث عن اللؤلؤ المكنون لم تعد متاحة اليوم ولا هي نفسها بسبب التطور التكنولوجي ولكنها لا تزال حاضرة بكل عناصرها ومكوناتها، فالدولة تؤمن أن لا سبيل لنسيان الماضي بل لا بد من التعريف به وتذكير الأجيال الصاعدة بما عاشه الأجداد وتعليمهم بعضا من دروسهم وحكمهم، ليتخذوا منهم العبر ويتعلموا قيما ومبادئ من شأنها الإسهام في تقدم الشعب وفي مقدمتها قيمة الصبر، تلك الصفة البشرية النادرة والمتوارثة بين الأجيال في الإمارات جراء تعاطيهم اليومي والمستمر مع الصحراء والبحر، فمكنتهم من الصبر على العراقيل والمشقات والأهداف ليحققوا حلمهم بإنشاء دولة كبرى لها قيمتها وسط الدول والشعوب.
ومن بين تسعين فعالية ثقافية وتراثية انعقدت على مدار أسبوع من السادس والعشرين من سبتمبر حتى الثاني من أكتوبر ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للصيد والفروسية، حضر متحف الشيخ زايد للتراث البحري كتعريف أثري وثقافي حي بقصة البحر في تاريخ دولة الإمارات.
وأنت تسير في المعرض الممتد على مساحة خمسين ألف متر مربع، قد تجد نفسك فجأة محاطا بالقوارب الشراعية، وحولك رجال يقومون بحياكة الشباك وآخرون يعرّفون الزوار بتاريخ هذه المهنة التي لم تستمر إلى اليوم لكن تأثيرها مستمر في الشعب الإماراتي. تأثير يصر الأجداد من “النوخذة” (قائد البحارة) على تمريره لأبنائهم.
في هذا الجناح التقت “العرب” النوخذة صالح أحمد حنبلوه الشحي وهو بحار مسن لكن قلبه ينبض بالأمل، حيث يقول “انتهت الطرق التقليدية للإبحار والصيد، لكننا هنا لتوعية الأجيال الجديدة بحياة أهل البحر في الإمارات وكيف كانوا يعيشون في الماضي والحرف التي اعتمدوا عليها في حياتهم عبر مئات السنين”.
ويتابع “هذا الجزء من التراث المادي لبلادنا يكشف للآخر جوانب من حياتنا قبل مشاهد النهضة والتطور التي جعلت الإمارات واحدة من الدول التي يسعى الجميع إليها”.
عمل النوخذة صالح لمدة تزيد عن ستين عاما في البحر حيث بدأ الذهاب إلى الرحلات البحرية في منتصف القرن الماضي، وهو يشترك مع زملائه في متحف الشيخ زايد للتراث البحري في حبهم لتجسيد صورة البحار الإماراتي القديمة، فهم يجلسون لحياكة الشباك بمختلف أنواعها استعدادا لعملية الغوص سواء كانت غوصا دافئا أي ذاك الذي يكون في فصل الصيف أو الغوص البارد الذي يضطر البحارة للقيام به شتاء بعد أن يكون صيفهم الذي سبقه فقيرا لم يؤتهم أفضل كنوزه من أسماك ولآلئ ولم يكفهم حاجتهم وحاجة عائلاتهم.
ولا يقتصر متحف الشيخ زايد للتراث البحري على البحارة بل تنتشر فيه مختلف القوارب الشراعية التي كان الإماراتيون القدماء يستخدمونها ومنها قوارب معدة لصيد الأسماك وأخرى للغوص والبحث عن اللؤلؤ وثالثة للتجارة. ويستعرض المتحف للزائرين معدات كان يستخدمها البحارة قديما، ومنها صندوق خشبي مربع يقول النوخذة صالح حنبلوه إنه مصدر المياه الوحيد خلال رحلة الصيد التي عادة ما تصل إلى أشهر.
ويتابع النوخذة حديثه لـ”العرب” قائلا “في البحر، لم يكن يحق لنا شرب أكثر من كوب ماء يوميا وأكل ثلاث تمرات، أقصد هنا الغواصين، فالغوص يحتاج أجساما خفيفة لم تثقلها الأطعمة الدسمة ولا حتى القليلة، نجوّع أنفسنا ونستمد طاقتنا من التمر كي نغطس ونصعد بسرعة وسهولة ولا نطفو فوق السطح جثثا هامدة، فوراءنا عائلات تحتاجنا لنعود إليها أحياء نمدها بالدعم المالي ونزرع فيها قيما وضوابط للحياة تقوي شوكتها في وجه أعاصير المستقبل”.
ويقدم المتحف صورة موجزة عن مكونات السفن وطواقمها وأعمالهم، ويمكن أن يصل عدد طاقم العمل على السفينة، حسب حجمها، إلى ثلاثين شخصاً، معظمهم من الرجال، ولكن في بعض الأحيان قد يضم الطاقم بعض الصبية. ويأتي في مقدمة الرجال، النوخذة، وهو صاحب السفينة أو قائدها الذي يدير عملية صيد اللؤلؤ بالكامل نيابة عن صاحبها، وهو من يقوم بتوزيع أرباح كل موسم على أفراد الطاقم. ثم يأتي السردال، وهو قبطان الأسطول بجميع سفنه وقواربه الذي يتمتع بخبرات واسعة في البحر ويعلم أفضل مواقع الهيرات (مغاصات اللؤلؤ). بعد ذلك يأتي الغوّاصون، رجال المهام الصعبة الذين يقضون يومهم في الغوص لاستخراج المحار من قاع البحر في ظروف خطرة. ويكونون في تعامل مباشر مع “السّيْب”، وهو المسؤول عن الحبال المستخدمة لإنزال الغواصين، ومن ثم سحبهم إلى السطح عند إرسالهم إشارة بجاهزيتهم لذلك.
أما “التبّاب” فهم صبية لا تتجاوز أعمارهم 14 عاما، وعادةً ما يكونون من أبناء أفراد الطاقم، يقومون بمساعدة السيب في سحب الغواص، كما يتدرب بعضهم على الغوص.
ثم يأتي “الرضيف” وهم الأولاد الصغار الذين يقومون بتقديم الشاي والطعام للغواصين ويساعدون في فلق محار اللؤلؤ. يليهم “النهام” وهو المسؤول عن تسلية البحارة خلال الأشهر الطويلة في البحر بإلقاء الأهازيج والأشعار بصوته العذب.
واعتمد أهل الإمارات على استخراج اللؤلؤ اعتماداً أساسيا، حيث كان هنالك حوالي 300 مركب شراعي وحوالي سبعة آلاف من البحارة في الإمارات يشرعون في رحلات لمدة أربعة أشهر من السنة مواجهين المخاطر تحت أشعة الشمس الحارقة بحثاً عن المحار لاستخراج اللؤلؤ الذي كان قديما أمرا صعباً للغاية.
حياة صعبة
يعرض المتحف بعض اللآلئ الطبيعية والأصداف التي استخرجت من بحر الإمارات، ويوضح النوخذة أن “تجارة اللؤلؤ لم تعد منتشرة في الإمارات كما السابق لكن هناك من الهواة من لا يزال إلى اليوم يمارس الغوص ويعلمه لأبنائه ومن يعثر على اللؤلؤ يتعامل معه ككنز إماراتي، يذكّره بأجداده وآبائه، كما أن الأصداف لم تعد للأكل فقط بل صرنا نوظفها كعنصر جمالي في الديكورات والهدايا، وصرنا اليوم نرى الرسامين والحرفيين يعرضون ويبيعون أصدافا بأشكال نادرة ورسومات جاذبة للانتباه”.
كما كان الغواص يحمل معه سكينا أو خنجرا للحماية من هجمات الأسماك المفترسة. وفي حين كان الخنجر في خمسينات القرن الماضي وستيناته سلاحا يكتفي بامتلاكه الإماراتي صار اليوم تراثا يتبادله الإماراتيون على شكل هدايا يلبسونها في مناسباتهم الاجتماعية وتباع بأسعار باهظة فبعضها يصنع من الذهب والفضة وقرون الجواميس والفيلة وغيرها.
متحف الشيخ زايد للتراث البحري يحتفل هذا العام بمرور عشرين عاما عن انطلاقه ويقدم ملامح من تراث الإمارات
وفي المعرض نماذج من معدات الصيد البحري القديمة الأخرى ومنها “الديين” وهي حقيبة أو إناء من نسيج متشابك يعلقه الغواص حول رقبته ليجمع فيه محار اللؤلؤ. و”الزبيل”، وهو الحبل المتصل بحجر الثقل ويربطه الغواص في ساقه ليغطس بسرعة إلى القاع والبقاء هناك ليجمع محار اللؤلؤ. وكذلك “اليدا” الحبل الذي يمسك به السيب. عندما يستعد الغواص للصعود إلى سطح السفينة، يحرك هذا الحبل بقوة، فيقوم السيب بسحبه. و”الفطام” وهو مشبك مصنوع من صدفة سلحفاة أو من عظم الخروف يضعه الغواص على أنفه ليمنع دخول الماء إلى الأنف. بالإضافة إلى شباك مصنوعة من الأقمشة الطبيعية مع حبوب اليقطين الكبيرة المجففة التي كان يستخدمه البحارة قديما لتطفو فوق سطح المياه وترفع الشباك نحو الأعلى.
ويقول النوخذة صالح حنبلوه في تصريحه لـ”العرب”، “البحر ليس صوتا ورائحة فقط بل مشاعر وقيم وضوابط وقصص إنسانية يمتد تأثيرها على الشعب، فهو معلم صارم لا يبوح بأسراره لمن كان أو لمن شاء، بل يعلّمها فقط لمن جبل عقله وقلبه على سبر أغوار الحياة، إذ ليس من السهل أن تعيش بين ماء وسماء، لا حيلة لديك سوى الصبر والتأقلم”.
هذا التراث المادي الذي صار علامة إماراتية مسجلة قال عنه الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة مرة “ترك لنا الأسلاف من أجدادنا الكثير من التراث الشعبي الذي يحق لنا أن نفخر به، ونحافظ عليه ونطوره ليبقى ذخرا للوطن وللأجيال القادمة.. ولا بد من الحفاظ على تراثنا لأنه الأصل والجذور وعلينا أن نتمسك بأصولنا وجذورنا العميقة”. هذه الجذور هي ما أثرى اليوم المعرض الدولي للصيد والفروسية وهي ما يعزز رغبة الإماراتيين في صنع حاضر ومستقبل أساسهما الماضي بكل تحدياته والجذور عامة بما تعنيه من تراث وثقافة متوارثة هي من تقدم الصورة الكبرى عن الشعوب عامة.