ترسيم خطوط الرئاسة بانتظار الوسيط الأمريكي الجديد
بقلم: اكرم كمال سريوي

النشرة الدولية –

الثائر

نجح الوسيط الأمريكي عاموس هوكشتين، بفرض حل وسط لترسيم الحدود البحرية، بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي، ولم يعد خافياً حجم الضغط الذي مارسته الإدارة الأمريكية على الطرفين. فتم وضع لبنان أمام خيارين: إمّا أن تقبلوا بما نعطيكم إيّاه الآن، وتتنازلوا عن الخط ٢٩، وتبدأوا بالتنقيب عن النفط والغاز، وتُقدَّم لكم مساعدات صندوق النقد والمجتمع الدولي، وإمّا لن تحصلوا على شيء، سوى المزيد من الحصار والمقاطعة والعقوبات.

وبالطبع لبنان المنهك، وحكامه، الذين هرّبوا أموالهم إلى أوروبا، واعتقدوا أنهم باتوا في مأمن، وجدوا أنفسهم في قبضة الإدارة الأمريكية، وتحت وطأة التهديد بسوط العقوبات، خضعوا وسلّموا أمرهم راضين مرضيين طائعين، فلا مناص لهم سوى الموافقة على قرار الراعي الأمريكي ، خاصة أن الحل الذي كان قد عرضه فردريك هوف سابقاً كان جائراً جداً بحق لبنان، فظهر حل عاموس هوكشتين وكأنه منصفاً، رغم كل ما يعتريه من مساوئ، خاصة أنه يتطابق مع الخط الحدودي، الذي أرسله لبنان إلى الأمم المتحدة، بالمرسوم ٦٤٣٣ والذي لم يتم تعديله لأكثر من سبب.

لم يكن شُتات الإدارة الإسرائيلية أفضل حالاً من حكام لبنان، فرئيس وزرائها يائير لابيد قادم على انتخابات برلمانية، وهو بالكاد قادر على تدعيم إئتلاف التناقضات داخل حكومته، التي لم تسجّل أي إنجاز يُذكر له، منذ أن تشكّلت في ١٣ حزيران ٢٠٢١، ونتنياهو ورغم كل إخفاقاته وتهم الفساد الموجّهة إليه، ما زال يحلم بالعودة إلى الحكم، ويتربص شراً بحكومة لابيد في كل خطوة تخطوها لينقض عليها.

 

وإذا فقد لابيد الغطاء الأمريكي، سيكون مصيره الفشل في الانتخابات والخروج من الحكم، لذلك وافق طائعا مختاراً، وقبِل بما لم توافق عليه الحكومات الإسرائيلية منذ عشر سنوات، وكان طبعاً قد تلقى وعداً أمريكياً بدعم حملته الانتخابية، وأصبح مقتنعاً بارتفاع حظوظه بالحكم على الأقل للسنتين القادمتين، أي حتى نهاية عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن.

 

بالشكل الكل سجّل إنجازاً !!!

فالرئيس ميشال عون اعتبر تحقيق الاتفاق وساماً على صدره، قبل مغادرة قصر بعبدا بأيام، فمنذ سنوات ولبنان يكافح للحصول على الخط ٢٣، ولم يكن بالأمكان تحقيق ذلك لولا اللحظة الدولية الضاغطة لإنجاز الاتفاق.

 

ورئيس الوزراء الإسرائيلي لابيد، يراه نصراً لحكومته، سيستخدمه في الانتخابات للعودة إلى الحكم، وهو يُدرك أن إسرائيل كانت في مأزق حقيقي، فمطالبة لبنان بالخط ٢٩ ترتكز إلى سند قانوني قوي ومهم وفقاً لقانون البحار والقانون الدولي، ومسيرات حزب الله فوق حقل كاريش، مثّلت إنذاراً جدّياً، وحكومته المترنّحة، غير قادرة على الدخول في حرب مع لبنان، لن تكون مضمونة النتائج، وستؤدي حتماً إلى خسائر بالجملة، وتوقف استخراج الغاز من كاريش، ولو إلى حين.

 

وحقيقة الأمر الساطعة في ملف الترسيم، هي أن الغرب، وخاصة أوروبا، تحتاج الآن إلى هذا الاتفاق، لتعوّض عن جزء من الغاز الروسي الذي شحّ تدفقه إليها، على أبواب الشتاء، وقد يطول الأمر لسنوات.

 

ومن المؤكد أن المنتصر الحقيقي في كل ما جرى هو الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي قال كلمته وفرض الاتفاق، ليؤكد أن هذا الشرق الأوسط الصغير، ما زال في قبضة يده وله فيه الكلمة الفصل، بدءاً من شمال أفريقيا إلى بغداد، وطهران المحاصرة بالبوارج والعقوبات، التي لن تُرفع عنها، إِلَّا بعد ضمان مصالح أمريكا وإسرائيل.

 

نال زعماء لبنان رضى الأمريكي، واحتفل هوكشتين بإنجاز سيُدوّن في سجلّه، ليفتح له أبواباً، للترقية وزيادة النفوذ مستقبلاً، داخل الإدارة الأمريكية، ولقد كسِب بذلك ثقة المَجْمَع الماسوني، ورِضا أرباب إمبراطورية ودكتاتورية المال، الحاكم المطلق على بنوك العالم وحكامه ودوله.

 

الكل الآن يطالب بالمكافأة، وزعماء لبنان بعد لابيد، يدونون أسماءهم على لائحة العم سام، المنشغل بحرب عالمية ضروس، باتت تستنزف قدراته المالية والعسكرية، وتزيد من الغلاء والتضخم داخل البلاد، و باتت تهدد إدارة الرئيس بايدن وحزبه بخسارة مؤلمة في انتخابات الكونغرس النصفية المقبلة، خاصة أن حلفاءه الأوروبيين يعانون من أوضاع اقتصادية صعبة، تسبب ضغطاً شعبياً متزايداً، قد يأكل رصيدهم السياسي، ويذهب بهم لصالح اليمين المتطرف، واندلاع موجة تفكك وانهيار الاتحاد.

 

سيحصل لبنان على المكافأة، وبعد الترسيم البحري سيتم ترسيم خطوط الرئاسة، بما يشبه حل الخط ٢٣، فلن ينال أي فريق كامل مطالبه. ولقد قدّم فريق المعارضة مرشحاً تفاوضياً مؤقتاً، هو أشبه بالخط ٢٩، الذي يعرف الجميع أنه لا يمكن الحصول عليه، لكنه جيد لبداية التفاوض مع قوى الثامن من آذار، التي لديها نقطة مرجع على خارطة المفاوضات الرئاسية، تشبه مِعلَم النقاط الجودزية على الخرائط العسكرية، والتي لا تفيد بشيء، سوى تسهيل عمليات البحث عن الأهداف وتحديد الارتفاعات. و هو مرشح يشبه النقطة رقم واحد، التي حددها لبنان عندما ارتكب خطأ كبيراً، بالانطلاق منها للترسيم البحري مع قبرص، فاستغلها العدو الإسرائيلي، ليفاوض لبنان انطلاقاً منها، وراح يطالب بما ليس من حقه ولا يمكنه الحصول عليه.

 

كما حصل في المفاوضات البحرية غير المباشرة مع العدو الإسرائيلي، يبدو أن الأفرقاء اللبنانيين باتت تستهويهم الطريقة، ويرغبون بالتفاوض فيما بينهم عبر وسيط أمريكي، فهذا يجنّبهم الكثير من الإنزلاقات، ويعطي كل فريق هامشاً أكبر للمناورة، من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، لكن في نهاية المطاف سيضعهم الوسيط الأمريكي أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا القبول بالمرشح الذي يطرحه، وإمّا البقاء في دوامة التخبط والانهيار الاقتصادي.

 

حتى الآن لا يبدو أن الوسيط الأمريكي لترسيم خطوط الرئاسة في لبنان مستعجلاً، كما كان سلفه عاموس هوكشتين، الذي كان حريصاً على تحقيق مصلحة بلده إسرائيل.

فالوسيط الجديد يبعث رسائله بالبريد المضمون، إلى كافة الفرقاء، وتتكفل السفيرة شيا بإيصالها، والتأكد من فتح الرسالة وقراءتها وفهم مضمونها، أما الوسيط فهو ينتظر منهم جواباً واحداً

“نعم نحن موافقون” وعندها سيزهر ربيع لبنان، وسيصبح لدينا رئيس جديد للجمهورية، وحتى ذاك الحين سيعاني الشعب مخاضاً عسيراً، على درب الآلام والجلجلة والصلب، بانتظار عيد القيامة ورحمة الرب.

وإلى اللقاء في الربيع المقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى