شطارة تغيير الزيت
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
بانتظار التفاصيل الفنية لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، كما تمّ التوصل إليها، يوم الثلاثاء الماضي، وتفاوتت توصيفاتها لدى ذوي الصلة ما بين الإنجاز والتفريط والاستسلام، فإن السؤال الذي يسوى الاجتهاد به، هو: كيف استطاع الوسيط الأمريكي “آموس هوكشتاين” تركيب اتفاق يخرج به الثلاثة، حسن نصر الله، ويئير لابيد، وجو بايدن، ليعمّموا قناعات بأن كلًا منهم خرج منتصرًا، وأن الاتفاق – وهو الأول من نوعه ما بين لبنان وإسرائيل منذ 1948 – هو صناعة لتاريخ جديد؟.
بعض الجواب على خصوصية الصفقة اللبنانية الإسرائيلية (وهي التي شاع في هذر السوشيال ميديا أن الوسيط فيها سيجد العام المقبل من يرشحه لجائزة نوبل)، يكمن في رؤية هذه الاتفاقية من زاوية أنها جزء من برنامج أمريكي يرعاه هوكشتاين، المستشار الأول للرئيس جو بايدن لشؤون الطاقة، يصحّ تسميته برنامج تسييس النفط.
تسييس النفط والغاز في مياه المتوسط، اللبنانية والإسرائيلية، يعني رفع كلفة عسكرته، وجعل الحرب عليه أثقل من أن يتحملها حزب الله ولبنان.
والأمر له مثيلٌ يرعاه “هوكشتاين” في الموضوع الفلسطيني، بترتيبات جارية الآن في مياه غزة وأراضي الضفة الغربية. شبكات غاز إسرائيلي للمناطق التي تسيطر عليها حركة فتح، وغاز مصري لغزة التي تسيطر عليها حركة حماس ويتعسكر فيها تنظيم الجهاد الإسلامي، ومعها تصبح كلفة الحرب أعلى من طاقة الفلسطينيين.
قبل أن ينفّذ “هوكشتاين” برنامجه بتسييس الغاز الإسرائيلي إلى المناطق العربية التي تتنفّذ فيها إيران بصنع القرار (لبنان وغزة)، كان نجح في موضوع مماثل بين تركيا وإسرائيل.
كما أنجز قبل 8 سنوات ترتيبات مماثلة بين إسرائيل والأردن من خلال شركة نوبل إنيرجي التي كان قبل ذلك موظفًا فيها للاستشارات التسويقية.
كان لافتًا ومثيرًا للريبة أنه في الوقت الذي فيه الوسيط الأمريكي يعمل بين لبنان وإسرائيل لتنضيج ترتيبات الغاز والحدود البحرية، كان تنظيم الحوثي في اليمن يهدّد باستهداف الشركات النفطية في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها.
ففي طبيعة ذاك التهديد وتوقيته، ما يشير إلى أن وكلاء إيران في المنطقة لا يمانعون، بل يستعجلون شمولهم في البرنامج الأمريكي لتسييس النفط، وقد أضحى عنوانًا للمرحلة.
تسييس النفط والغاز ليس بالأمر المستجدّ الذي نشأ وتداعى بعد حرب أوكرانيا، فالطاقة كما هو التموين والتقنية والأسلحة، في التعاملات والمعادلات الدولية، طول عمرها أدوات سياسية بقدر ما هي سلع وخدمات.
ما فعله عاموس هوكشتاين، الذي وُلد في إسرائيل، العام 1973، وخدم في جيشها 3 سنوات (92 – 1995) قبل أن يجد من يرعاه في الهجرة للولايات المتحدة ويتقلّب في مؤسساتها السيادية (من الكونغرس إلى الخارجية ثم إلى البيت الأبيض)، هو أنه تخصص في الطاقة وصاغ لها نظرية سياسية وأمنية أضحى مستشارها الأول، والموكل بتنفيذها في الشرق الأوسط وأوروبا.
وتقوم النظرية التي يعمل بها “هوكشتاين”، منذ إدارة باراك أوباما، على هدف أن تصبح واشنطن صانعة لمنظومة جديدة أسموها “أمن الطاقة في العالم”. وفي ذلك تصبح الولايات المتحدة، (وهي أكبر منتج للنفط الخام)، صاحبة الولاية والمصلحة النافذة في هذا العصب الأممي الرئيس، وذلك مقابل أوبك وأوبك+ كمنتجين للخام والغاز وفاعلين في تسعيره الذي ما زال يتم بالدولار.
في أحاديث قليلة متفرقة، عرض هوكشتاين نظريته (التي جرى تطبيقها في الشرق الأوسط بدأب متتابع كان آخره صفقة يوم الثلاثاء الماضي)، على مبدأ أنه لا ينبغي توظيف الطاقة كأداة للأكراه.
فالعالم، كما يقول، يمرّ في مرحلة انتقالية بمجال الطاقة، ويتحرك بعيدًا عن الوقود الأحفوري، لكن هذا التحول سيستغرق بعض الوقت، ولذلك يتوجب أن تعطى الأولوية لتحفيز مصادر الطاقة والتكنولوجيا المتجددة باعتبارها هي الرصيد المدخّر للمرحلة المقبلة.
أول مهمة رسمية تولاها “هوكشتاين” بعد أن تسلم إدارة مكتب الطاقة الذي جرى تتبيعه لوزارة الخارجية، كان السفر إلى أوكرانيا والبدء من هناك بتنفيذ برنامجه، كان ذلك، العام 2014، في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
كانت مهمته هناك، وما زالت نفسها التي نرى تجلياتها التنفيذية الآن، هي فكّ ارتباط أوروبا بروسيا في الغاز، وفي هذا الاتجاه تحدث “هوكشتاين” عن إنشاء محطة غاز طبيعي عائمة في ألبانيا، وتوصيلات عديدة في البلقان، وزيادة تدفق الغاز من آسيا الوسطى وإسبانيا إلى بقية الدول الأوروبية، ولذلك وصفوه بأنه “حمّالة الحطب” أو ناقلة الغاز في الغرب.
فعل “هوكشتاين” ذلك في أوروبا ثم طبقه في الشرق الأوسط ولم يترك مجالًا للشك بأن تسييس النفط في الإقليميين هو مجرد برمجة زمنية لنظرية أمريكية تربط أوكرانيا وأوروبا مع نفط الشرق الأوسط، في منظومة تسييس واحدة هو راعي تنفيذها.
في الفواصل الزمنية التي تخللت تسلسل مهماته التنفيذية والاستشارية وكمبعوث خاص لوزارة الخارجية أو للبيت الأبيض، كان “هوكشتاين” يعمل مستشار تسويق لتروستات نافذة بينها آل روتشايلد، وشركات ماراثون، وتيلليرون، ومهراف الإسرائيلية. ولذلك، لم يكن مستغربًا أن يوصف بأنه صاحب أكبر محفظة أسهم بين موظفي الحكومة الفيدرالية، وذلك في سياقات تهمة لم تثبت علية.
تاريخ “هوكشتاين” مع الشرق الأوسط، بالتأكيد، لم يبدأ ولا يبدو أنه سينتهي برعاية صفقة حدود الغاز البحري بين لبنان وإسرائيل؛ ففي هذا التاريخ محطات ومفارقات أخرى تُوسّع في ملامحه الشخصية ورزمة كفاءاته المتنوعة.
عندما كان يعمل في الكونغرس، في بدايات سجله البيروقراطي، سافر “هوكشتاين” إلى العراق أيام حكم الرئيس صدام حسين، وهناك شارك في مناقشات دبلوماسية مع الحكومة العراقية عبر قنوات خلفية على موضوع رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية مقابل توطين عدة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين وسط العراق.
وفي العام 2008، عندما كان يعمل مستشارًا “لوبي” لشركة كاسيدي، عمل هوكشتاين مع حكومة الرئيس الليبي معمر القذافي على مخطط لاستثناء طرابلس من قانون أمريكي يجيز لضحايا عمليات الإرهاب (إشارة الى حادث تفجير طائرة لوكربي) مقاضاة الحكومات الخارجية، مقابل خدمات لشركة مارتون النفطية الأمريكية.
واليوم، في ذروة مناخ شرق أوسطي موسوم بعدم موثوقية واشنطن، يعود هوكشتاين للمنطقة ليغيّر الزيت (بحسب التعبير الشعبي اللبناني)، يروج لتسييس النفط، وينجح مع حزب الله وإسرائيل في تمرير صفقة كلمة السرّ فيها أنها تمنع الحرب برفع كلفتها.