نادين بويز تشكل مشاهد مصغرة عن ولادة أكوان وتحولاتها

النشرة الدولية –

العرب  ميموزا العراوي –

مثلما يتلاعب الفنانون المعاصرون بالمواد لخلق أفكارهم، فإنهم أيضا يتلاعبون بقدسية المفاهيم التي كرسها التاريخ والوعي البشريان، فيحررون عناصرهم مما علق بها من أفكار وتصورات ليذهبوا بها إلى تصورات ومشاعر وأفكار أخرى، تماما كما فعلت الفنانة اللبنانية نادين بويز مع الماء والخزف.

بعيدا عن  الأفكار المُستهلكة، كعناية الأرض الأم بابنها الإنسان، إلى حد تفريغها من أي معنى ممكن البناء عليه، وتأليه العناصر الأربعة، أي الماء والتراب والنار والهواء، تقدم الفنانة اللبنانية نادين بويز معرضا في صالة “تانيت” اللبنانية بعنوان “تحت الماء تشكلت الأرض”.

افتتح المعرض في السادس من سبتمبر الفائت واستمر حتى السادس من أكتوبر الجاري مقدما 70 قطعة نحتية/ خزفية من السيراميك في صالة “تانيت”، أعمال أبدعت فيها الفنانة نادين بويز في التواصل مع إيقاع الماء وقدرته التأثيرية الهائلة المُنشئة لعوالم مرئية/ بدائية تنضح بعطور الأرض الأصلية، أعمال جمعت بين التكلف والفوران اللوني وبساطة الأشكال وشفافيتها في وحدة شاعرية تقول: إليكم آثار عبوري، ومشاهد مُصغرة من إيقاع التكوين. إليكم هدوء ووقار عزيمتي في أصغر وأروع تفاصيلي.

70 قطعة تتنوع في خشونة ونعومة ملمسها ومظهرها ولؤلؤية بريقها وتبدو كأنها خرجت للتو من زمن غابر كان فيه الماء وليس المياه، وشتان بين الاثنين عندما نتحدث عن الخلق، يغلف العالم كله. يقف المُشاهد متسائلا أمام هذه القطع الخزفية محاولا قراءة عناصرها المؤلفة؛ هل هذه فقاعات تجمدت من شدة البرودة؟ هل هذا سيلان أوقفه تحجر ما؟ ما هو هذا التحجر المحتدم لونيا؟ هل جاء بعد انفجار بركاني؟ ما هي هذه الخضرة النباتية العميقة الغائصة في شاعرية لا تخلو من مأساوية باردة برودة الحجر؟

أعمال الفنانة تسرد محاولتها عبر اللمس والضغط والصقل والتجفيف والتصديع والتثقيب، مخاطبة القائم ما بين يدها وأصابعها، والعناصر الأولية. أعمال تشي بتواطؤ عاطفي بين الاثنين (الفنانة والمواد) في تشكيل مشاهد مُصغرة عن ولادة أكوان وتحولاتها واتساع وتقلص مساماتها وأيضا احتضاراتها.

ولعل هذه العاطفية الجلية في التعامل مع الطين والماء، بمشاركة النار والهواء، هي ما ساهم بشكل رئيسي في نشأة هذا الفيض اللوني الشاعري المُقارب والمُحاكي لحقيقة النظام البيئي وتوازنه. فيض يحاكي “فوضوية غنائية”، إذا صح التعبير، تدرك تماما ماذا تصنع وكيف تظهر أمام الفنانة المنغمسة في عملها الفني وبالتالي أمام المُتأمل في أعمالها المُنجزة.

وفي أكثر من مناسبة قدمت الفنانة تصورا شاملا لمنطق عملها الفني، بغض النظر عما تضمنته معارضها الفردية العديدة من أعمال، قائلة “أستخدم عناصر طبيعية مثيرة للاهتمام، أتابع الأفكار الجديدة التي تظهر لي من حالة تأمل عميقة. عنصر المفاجأة هو الدافع لدي، حيث أكتشف ظهور أشكال جديدة غير مخطط لها على أطراف أصابعي أثناء العمل”.

وتعتبر الفنانة أن في سياق عملها المُستوحى من تحولات التكوينات الطبيعية ليست هناك أية بداية واضحة ومحددة ولا نهاية معروفة مُسبقا. ليست في هذا المنطق أية غرابة لأن ما تنتجه الفنانة من أعمال هو تظهير لمسار يتضمن مشاهد من رحلة تأخذها وحدها في وسط الطبيعة وقوامها إصغاء إلى الجريان البطيء للزمن الذي عبره تتشكل الهيئات الطبيعية وتتحول وتتلون في أرحام الماء. وهو أيضا محاولة لا تنتهي في ضغط وتكثيف لهذا الزمن الخلاق.

وتجمع الفنانة في عدد من أعمالها بين الجمالية وقابلية الاستخدام؛ فهناك ما يشبه الصحون التي يمكن استعمالها في الحياة اليومية. ولكن أغلب الظن أن لا أحد من مقتني هذه الأعمال يستطيع استخدامها بطريقة تقليدية، لأنها “أدوات” غير فارغة، بل مليئة بمحتويات أثيرية تضج بحياة غرائبية وبقصص عمرها آلاف السنين ويحلو تخيلها وتصديقها.

المشاعر والماء

 

بصمات بديعة لتحولات الكون

“تحدث” أعمال الفنانة وكأنها جاءت عن طريق الصدفة، مثل بصمات بديعة لتلك التحولات وشاهد على تواصل الفنانة الحثيث بينها وبين العناصر المؤلفة للأعمال. لأجل ذلك ربما تبدو الفنانة في منتجها لا تنقل، بل تعكس ما تراه وما تستشعره. وهي في ذلك تخلّد وتحافظ على ذكرى فصول من حياة المادة ولكن ليس دون أن ترفقها بانطباعها ونظرتها الخاصة.

ومن خلال أسلوبها في استنطاق العناصر الطبيعية في تفاعلها مع بعضها البعض تصل الفنانة إلى ما يمكن اعتباره “أنسنة” العناصر واتحادها في أعمال منفصلة، تماما كما تتحول العناصر، عبر عمق تأثيرها في وعي الفنانة، بدورها إلى عنصر طبيعي لأنها باتت جزءا منها. عند هذا المستوى المتقدم تحديدا يُمكن للمُشاهد أن يعثر على تمثيل لمشاعر إنسانية مختلفة وقد تجلت في مختلف الأعمال؛ ثورة وحزن وهدوء وسكينة وأمل وحزن عميق

ثمة رهبة في بعض هذه الأعمال، لاسيما تلك التي يطغى عليها اللون الأخضر والبرتقالي، لأنها تبدو كأنها كشفت أمام الناظر إليها رؤية أول ظهور للون الأزرق والأخضر والبرتقالي من رحم الطين ولونه. عندئذ لا بد من سؤال قد يتخطى حسية المعرض وتأصله في منطق المادة الحية: هل الماء المعتم الذي يترقرق ويتنفس بأصوات أدنى، والذي فيه تكونت ثم ظهرت الأرض هو فقط ماء المحيطات والبحار العميقة؟ أم هو أيضا مياه الأنهار الخضراء الهادرة بعناصرها المعدنية غير المرئية خلال انسكابها الإيقاعي في المحيط الكلي الذي منه نشأت الحياة؟

يُذكر أن الفنانة حاملة درجة الماجستير في الفنون الجميلة من “مدرسة أوكسفورد للتصميم”. وقد راكمت خبرات في مجال التصميم الداخلي، وتصميم البورسلان الدقيق، ثم تصنيع السيراميك باليد.

تحصّلت سنة 2017 على جائزة خيار الجمهور في صالون الخريف بـ”متحف سرسق للفنون المعاصرة” في بيروت، وذلك على نُصبين ضخمين عاليين من السيراميك.

وللفنانة مشاركات في معارض جماعية، كما قدمت معارض فردية نذكر منها “أصداء الأرض” و”من الوحل إلى الذهب” و”طربوش”. وقدمت بويز أيضا عددا من أعمالها إلى مؤسسات خيرية واجتماعية وفنية لبنانية وعالمية، ومنها ما كان لمصلحة لبنان. وتُعْرَض ابتكاراتها في عواصم عالمية مثل لندن والقاهرة ودبي وباريس وبيروت ونيويورك، وسواها.

 

زر الذهاب إلى الأعلى