بانتظار ساعة البترودولار
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

تضعُ ما قاله الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قبل 4 أيام، عن ولاءات اليهود الأمريكان وعما فعله هو لإسرائيل، إلى جانب ما نشره بنيامين نتنياهو، الأسبوع الماضي، من مذكراته، بما فيها من حجم الخداع والابتزاز الذي مارسه مع ترامب لغسل دماغه بشأن القضايا الجوهرية في المنطقة، فتجد نفسك في “مغارة الشياطين” التي يختلط فيها الكيد مع الجهل والعبث، على نحو يجفف ما بقي من الثقة في السياسات الأمريكية المتقلّبة تجاه الشرق الأوسط.

وإلى جانب ما غرّد به ترامب وما كتبه نتنياهو، تضعُ تلك التفاصيل الصغيرة الموحية التي نشرها، في 23 أغسطس الماضي، جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره الأول، عن البيئة المسمومة للبيت الأبيض وكيف تخضع سياساته تجاه الشرق الأوسط لخلطة فاقعة من الاعتبارات الشخصية والانتخابية، فتكون النتيجة توسيعًا إجباريًا مريرًا لفجوة الثقة العربية بأمريكا، وصعوبة مضاعفة في قراءة الخطوة التالية لها.

الخطوة التالية مقصودٌ بها نوعية وحدود المراجعة التي تجريها الآن إدارة الرئيس جو بايدن تجاه المنطقة، انطلاقًا من الردّ الذي تدرسه على قرار “أوبك+” الأخير خفض الإنتاج النفطي.. الرد الذي أوحت تصريحات بايدن بأنه سيكون استثنائيًا في مراجعة علاقة واشنطن مع الرياض، وتداعياته قد تنسحب على المنطقة كلها وتتجاوز إقليم النفط الخليجي.

في كتابه الذي وصف فيه ترامب بما يشبه “قليل الأدب بالفطرة”، وردّ فيه بشكل غير مباشر على شتيمة مقذعة كان تلقاها من راعي مشروع صفقة القرن، عرض نتنياهو وبتفصيل مُستهان، كيف تراوحُ قضايا الشرق الأوسط الكبرى بين واشنطن وتل أبيب، بدءًا من الفلسطينية والنفطية والعسكرية والقدس والجولان، وانتهاء بالنووي الإيراني وتفاصيل ترتيبات اغتيال قاسم سليماني.

وإذا كان هناك أي مستخلَص انطباعي يتعلق بالشرق الأوسط، تنزّ به الاعترافات الأخيرة للثلاثة، ترامب ونتنياهو وكوشنر، فهو الذي يقول إن الدول العربية التي فقدت ثقتها بالولايات المتحدة منذ زمن غير قصير، لديها كل الحق الآن بأن تتوجس شرًا من المراجعة التي تجريها الإدارة الأمريكية للشراكة التاريخية بين واشنطن والرياض، فقد أعطى بايدن للموضوع صفة التهويل في التحذير، وشاركته في ذلك قيادات من الحزب الديمقراطي المعروف تاريخيًا بالكيمياء المعكورة تجاه العرب والمذهب السنّي.

هذه التحزيمة المكفهرّة أشاعت انطباعات بأن المواجهة الجديدة التي فتحتها واشنطن بتسييس النفط، تحتمل خطأً في الإجراءات، مبعثه خطأ أساس في الحسابات.. خطأ احتساب الموقف النفطي لـ”أوبك+” وللسعودية من زاوية تصنيفه انحيازًا للروس في حربهم على أوكرانيا، وهي الحرب التي أطلقت صفارة المباشرة بتفكيك النظام العالمي الحالي، وأساسه النظام النفطي والاقتصادي والمالي الذي أخذ مداه في الفكفكة وبات ينتظر البدائل.

كل ذي صلة بالنفط ومحركاته يعرف أن “أوبك+” التي تأسست، في نوفمبر 2016، وكان جديدها النوعي انضمام روسيا لها كونها تنتج 10 ملايين برميل خام يوميًا، جاءت برضى ومصلحة أمريكية مؤكدة، يوم كانت الولايات المتحدة تتهيأ للاكتفاء ذاتيًا من الخام وتنتقل من الاستيراد إلى التصدير.

تأسست “أوبك+” بهدف إدارة توقعات السوق العالمية وتعظيم الإيرادات بدلاً من تعظيم الإنتاج، وهو نفس الهدف الذي كان لأجله الخفض الأخير في الإنتاج بمعدل 2 مليون برميل يوميًا.. هو قرار فني سيّسته واشنطن وحمّلت مسؤوليته للسعودية، وبنت على ذلك مراجعة لعلاقاتها مع الرياض ببدائل تخضع الآن للمتابعة والتوقعات المتفاوتة.

تنسى الولايات المتحدة أن تأسيس “أوبك+” جاء ردًا ونتيجة لعملية غدر تاريخية مارستها إدارة الرئيس باراك أوباما تجاه الدول العربية النفطية التي كان هو نفسه استهدفها خلال “الربيع العربي” وبالأسلمة السياسية.

ففي منتصف العام 2014 وتحت تاثير طفرة النفط الصخري، تعرضت أسعار النفط وعوائد الدول العربية لانهيار أطاح البرميل من 107 دولارات ليصل 44 دولارًا مطلع العام 2015.. ما حصل أجبر دول الأوبك على توسيع المنظمة بعد أن اقتنعت روسيا أن في تآلفها مع النفط العربي مصلحة مشتركة وتخفيفًا لعزلتها الدولية التي صنعها الغزو الأول لأوكرانيا العام 2014.

يومها أحدث انضمام روسيا لـ”أوبك +” تصحيحًا في الأسعار يماثل تمامًا التصحيح العادل الذي أحدثه القرار الأخير لـ”أوبك+” بخفض الإنتاج.. وفي الحالتين، كان انعدام الثقة بالولايات المتحدة هو الإطار الأعم الذي يحرك ميكانيكيات السياسة والنفط، وليس حصرًا على الشرق الأوسط.

في الأعوام الستة الماضية التي أعقبت إنشاء “أوبك+”، نجحت إدارة الرئيس الروسي بوتين في تعزيز الثقة المتبادلة مع الدول النفطية العربية الرئيسية، على قاعدة الوضوح في المصالح المتبادلة.

وبموازاة ذلك، نجحت إدارة الرئيس الصيني شي جين بينغ بإحراز ثقة دول النفط العربية وهي تتجه في أسواقها شرقَا، وتمثّلت هذه النجاحات بعشرات البلايين من الاستثمارات في طيف عريض من المجالات ذات الرؤية المستقبلية.

وكانت ذروة الثقة بين الصين والنفط العربي دخولُ بكين في عملية الخصخصة الجزئية لشركة أرامكو السعودية، واتفاق إستراتيجي تتكامل فيه خطط التنمية الوطنية؛ طريق الحرير الصينية و”رؤية 2030” السعودية..

تلاقت الرؤى المستقبلية للطاقة لدى بكين والرياض وأبوظبي، على القناعة بأن أزمة الطاقة المستمرة هي حصيلة خطط الانتقال الهشة التي تتبناها الولايات المتحدة وتتجاهل فيها الأمن الحقيقي للطاقة المتمثل بمراحل انتقالية رحبة يتحمل الجميع تكاليفها، وليس الدول النفطية فقط.

واليوم، يشكل الفوز المضمون تقريبًا للرئيس الصيني شي جين بينغ بولاية ثالثة، دعمًا ثقيلًا لدول النفط العربية التي تترقّب ما يمكن أن تسفر عنه المراجعة الأمريكية الراهنة لشراكتها التاريخية مع السعودية ومع النفط العربي.

وسيكون “حدثًا يصنع التاريخ الاقتصادي العالمي”، إذا جارت واشنطن على الرياض في هذه المراجعة الراهنة التي تحدّث عنها بايدن بلغة الوعيد، فهي تعرف بتوالي التجارب الأخيرة أن الرياض تمتلك أدوات ردّ بعضها موجع بعمق ويغير قواعد اللعب في الاقتصاد العالمي.

المقصود بذلك هو الإعلان المطروح منذ عدة سنوات، والمتضمن وقف بيع النفط حصرًا بالدولار الأمريكي، فمثل هذا القرار السيادي الذي يلغي “اتفاقية البترودولار” التي عقدت، العام 1979، كفيل بأن يفكك ما بقي من النظام الاقتصادي- المالي العالمي الذي تديره وتستثمره الولايات المتحدة، ويسوغ لها طموحًا بإدامة القطبية المالية الواحدة.

في اتفاقية البترودولار قبل 43 عامًا كانت هناك التزامات أمنية ونفطية واقتصادية واستثمارية، إذا راجعتها الآن إدارة بايدن مراجعة جذرية فقد يأتيها الرد الذي لا يتحدث به أحد حتى الآن، وهو انسحاب السعودية ومعها عديد الدول العربية وغير العربية في أوبك، كون اتفاقية البترودولار شملتها أيضًا.

انسحاب دول “أوبك+” الرئيسة من منظومة البترودولار سيشكل إلغاء إجرائيًا للدولار الأمريكي كعملة احتياط أممية، بكل ما في هذا الإجراء المحتمل من مضامين بُنيوية للنظام الاقتصادي العالمي الذي سيحتفي بتحرره من الهيمنة الغاشمة للدولار، وليصبح متاحًا له (كما للذهب) أن يدخلا عصر الرقمنة الحقيقية بكل البدائل الفذة بما فيها عملة البيتكوين الافتراضية.

نعم.. ضيقُ هامش المناورة أمام إدارة الرئيس بايدن، مضافة له المكابرة وغموض الأجندة، ومنزوعًا منه دسم الثقة، يمكن أن تدفع واشنطن لمراجعة جائرة للشراكة التاريخية مع الرياض.

مثل هذه المراجعة إذ تتحول إلى متبادلة، فإن نتائجها بموت البترودولار ستشكل استهلالاً لنظام جديد ادعى للعدالة.. نظام عالمي بديل، قيل إن الرئيس الروسي أراده من حربه على أوكرانيا ثم انتهى الأمر إلى أن الرئيس الأمريكي هو الذي نفذه وهو الذي سيدفع ثمنه.

Back to top button