عندما تنقلب السخرية على صاحبها في لبنان
الكوميديا السوداء تعتمد على شيء يؤلمك ويدفعك للضحك وكوثراني ليس الوحيد داخل "حزب الله"
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
يقول الفيلسوف كارل ماركس “إن التاريخ يُعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة”، ويقول المثل اللبناني “نص المزح جد”، (أي نصف الهزال جدي)، قد يستطيع أي مواطن يعيش في الغرب أن يسخر وينتقد، وصولاً إلى رمي البيض والبندورة على الزعماء والمسؤولين السياسيين، والأمثلة كثيرة من الولايات المتحدة إلى فرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول الغربية، التي تعد أنظمتها ليبرالية. الأمر يختلف كلما اقتربنا من الأنظمة القمعية والاستبدادية.
اعتادت الشعوب العربية منذ زمن طويل استخدام السخرية كوسيلة للتعبير عن مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والأهم السياسية، وتحولت تلك السخرية في بعض الدول سلاحاً في وجه أنظمة الحكم ونقد المجتمع، تلك الوسيلة التي تبدو من أسهل الوسائل لإبداء الرأي حول قضية أو حدث ما، قد تصبح تهمة قد تؤدي إلى السجن أو النفي أو حتى الموت، هذا ما حدث مع الشاب السوري إبراهيم القاشوش بداية الحرب السورية، الذي اشتهر بلقب “مطرب الثورة السورية”، بعد أن ألف أغنية مناهضة لرئيس النظام السوري بشار الأسد، رددها معه آلاف المتظاهرين. القاشوش قتل بطريقة وحشية حيث اقتلعت حنجرته، ورمي في مجرى نهر العاصي.
ولطالما كان الفن الساخر وسيلة مقاومة، وحتى بات لكل شعب شخصية فكاهية، يختلط فيها التاريخ بالحقيقة والخيال، من “جحا وحماره”، وكان أول من ذكر جحا العربي الأديب “الجاحظ” في كتابه “القول في البغال”، لكن جحا عاد وظهر في إسطنبول تحديداً في مدينة قونية، في شخصية الشيخ نصر الدين خوجة، الذي عاصر حكم المغول لبلاد الأناضول، فاشتهرت نوادره الساخرة من تيمورلنك، وبات رمزاً لرفض القهر والظلم الواقع على الشعب، وتحول قبره بعد ذلك إلى مزار تاريخي منقوشة عليه نوادره، مات أبو الغصن دجين الفزاري، لكن لقبه “جحا” ظل حياً ثم استمرت شخصيته في الظهور، فظهرت في إيران باسم “ملا نصر الدين”، ولم تقتصر شخصية “جحا” المحبوبة على الدول العربية وإيران وتركيا وأوزباكستان، بل اشتهرت شخصيات مشابهة له في دول أوروبية، ففي إيطاليا ومالطا عرفت شخصية “جوخا” وفي بلغاريا اشتهرت شخصية “غابروفو” وعرف “آرتين” سليط اللسان في أرمينيا، والمغفل “آرو” في يوغوسلافيا.
الكوميديا السوداء والسخرية السياسية
الكوميديا السوداء نوع من الكوميديا والهجاء، تمتاز بأنها تدور حول مواضيع تعد عموماً تابوهات أو أموراً “محرم الخوض فيها”، بحيث يتم التعاطي مع تلك المواضيع بشكل فكاهي أو ساخر مع الاحتفاظ بجانب الجدية في الموضوع، وتتضمن مواضيع الكوميديا السوداء الموت والانتحار والحرب والإرهاب والعنف والجريمة والمخدرات والخيانة الزوجية والجنون والعنصرية والشوفينية والجريمة، إضافة إلى الجنس وما شابه، وتتسم مواضيعها بالسوداوية، ويعتمد كتاب السيناريو على أن يجعلوا هناك كوميديا في الموضوع ولكن سوداء، بمعنى أنها تعتمد على شيء يؤلمك ويدفعك للضحك، لذا فهى كوميديا ليست بالسهلة ولا بد أن يكون المتخصص بتناولها شخصاً متمكناً.
ولعل أفلام الأسطورة “تشارلي شابلن” الصامتة كانت أول من أشار إلى بشاعة وضراوة حكم هتلر والنظام النازي، فصمدت وخلدت في أذهان الناس متفوقة على أي أخبار وتعليقات سياسية من زمنها، كذلك جون ستيورات في الولايات المتحدة وعلي فرزات في سوريا وإبراهيم نبوي في إيران هم أمثلة قليلة من الساخرين المتحدين للسلطة بسلاح الكوميديا.
الخيط الرفيع بين التفاهة والرزانة
مع تقدم وسائل الاتصالات، انتقلت السخرية من الكتب والأدب والمقالات إلى منصات التواصل الاجتماعي ما أبعدها أحياناً من الهدف الحقيقي، وجعلها تقع في السخف والخفة والابتذال، وراجت في الفترة الماضية على وسائل التواصل الاجتماعي اللبنانية، فيديوهات عرفت بـ”فيديوهات الكوثراني” ونالت شهرة واسعة ضمن المجتمع اللبناني، حتى أن التعابير المستعملة داخل الفيديو من قبل صاحبها “محمد كوثراني” وصلت لأن تصبح “هاشتاغ”، لفترة من الوقت.
والفيديو الذي نال حظاً واسعاً من الانتشار هو فيديو يقسم فيه “الإنفلونسر” كوثراني، الأدوار في الدولة النفطية المقبلة بين الطوائف، ويعطي للمسيحيين السياحة وللسنة الإدارة وللدروز الحكمة وللشيعة حمل الصواريخ والقتال إلى الأبد.
يعرف كوثراني نفسه بأنه مهندس ثقافي، لكن بالنسبة إلى أحد الناشطين الحقوقيين وهو مواكب للمجتمع الشيعي يقول لـ”اندبندنت عربية”، إن كوثراني ليس “إنفلونسر”، بل منظم في تنظيم “حزب الله” بالتالي هو يقوم بدور معين، خاص بالحزب، ويتابع الناشط الحقوقي، أن خطاب محمد وكلامه ليس بجديد، هو الخطاب ذاته الذي يقال للمنظمين في الحزب مع فارق طريقة تضخيمه للأمور، ولكن الفكرة العامة نفسها والنهج ذاته.
وبالنسبة إلى متابع من البيئة نفسها، فإن الفيديوهات تندرج ضمن التفاهة وتسطيح المشكلات لإيجاد حل للأزمة اللبنانية بشراكة أممية، تحدثنا إلى المهندس محمد كوثراني، عن فكرة تسطيح الأزمات التي يعيشها المجتمع اللبناني، وأليست هروباً من مواجهة الواقع؟ أخبرنا، “أن الحكم على فيديو واحد، ليس عادلاً”. يقول “يجب مشاهدة كل الفيديوهات، حيث أصبح لديه أكثر من 60 فيديو”.
يعد هذا أسلوباً لتبسيط بعض الأفكار كي تصل إلى الجمهور، حيث المستهدف لديه هم “الناس العاديون”. يضيف أن تبسيط كثير من المسائل بحاجة لأدلة ومقدمات. كوثراني الذي يعتبر أن “المقاومة” حصلت على التحرير الثالث بعملية ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، و”أن غاز وحنطلع، وفي نطرة أكيدة”، انتقده كثيرون، ووصفوا مضمون الفيديوهات بـ”السخيف”، لكن بالنسبة إليه فإنه مشى وتابع في سياق معين منذ سنتين، ويصف لغته بأنها “لغة تبسيط وليس تسخيفاً”. وكان قد طرح حلولاً لمشكلات لبنان منها، أن “نقول للصينيين أن يأتوا للقيام بشبكة طرق إلى جانبها سكة حديد مجاناً، لأن حجم لبنان ليس بحجم حي في شانغهاي”. ونقول “للروسي أن ينشئ ثلاثة معامل كهرباء” أيضاً مجاناً، وللعراقيين والإيرانيين “يعطونا فيول بالعملة اللبنانية” أو يأخذون في المقابل “ليمون أبو صرة”، أما الفرنسيون فـ”ليعيدوا إعمار مرفأ بيروت”، وأما السوريون “فليستعيدوا النازحين”.
ويعتبر كوثراني هذه الحلول منطقية وقائمة على شيء واقعي، ويقول إن ما ساعد على انتشار الفيديو المزحة السمجة التي “غلطنا وقلناها” عن التوزيع الطائفي في لبنان، وهي “غير مقصودة”، حيث “انفهمت بشكل خاطئ، وهي ليست جدية أبداً”. واضطر كوثراني أن يعيد تنزيل فيديو لاحق كي يوضح وجهة نظره، إضافة إلى موضوع الحلول التي طرحها.
كوثراني وخلق “الأمل”
لا يبحث كوثراني عن ظهور إعلامي، فهو بحسب تعبيره يمتلك هذا الظهور، يؤكد كوثراني عن نفسه في تصريح خاص، أنه ليس محللاً سياسياً أو اقتصادياً، هو مهندس “تخطيط مدني” ومن ثم توجه نحو “الهندسة الثقافية”، هذه الهندسة المعنية بخلق تغيير ما في مجتمع معين، من خلال العمل على القيم التابعة له.
ويوضح أن الأصل في عمله هو العمل على القيم المجتمعية كي يوصل وجهة نظره، بطريقة سلسلة و”مهضومة” ومبسطة، والأهم بالنسبة إليه هو خلق وإعطاء “الأمل” لدى متابعيه، حيث إن الكل يائس ومحبط، والتفاؤل والأمل يأتي بالإصرار على العمل والتغيير، وهو ما يحاول القيام به.
أما عن السجال الذي حكي عنه في الإعلام بينه وبين الممثل حسين قاووق، يقول إنه لا سجال بينهما، بل على العكس فيديوهات قاووق أضحكته. الموضوع هو بتسخيف فكرة “التحرير الثالث” وترسيم الحدود والتوجه شرقاً. وعن شخصية الكوثراني التي تتناولها “سكتشات” قاووق، فهي تتكلم عن كوثراني آخر، بحسب تعبير الأخير.
أزمات “البيئة الشيعية”
في المقابل راجت فيديوهات لشابين ينتميان إلى البيئة الشيعية، هما حسين قاووق الكوميدي الشاب والكاتب الشاب محمد الدايخ، عبر فيديوهات ساخرة بطلها شخصية تنتمي في مزاياها إلى ما يسمى “بيئة المقاومة”.
قاووق والدايخ شابان ينتميان لـ”البيئة الشيعية” ويعيشان في مناطقها، من هنا جاءت مقاربتهما لمشكلات تلك البيئة واقعية وصريحة وتلامس الحقيقة، لكن بسبب مقال نشر في جريدة “الأخبار”، ألصقت بقاووق تهم وأوصاف تندرج في خانة التخوين والتحريض، وتحولت إلى تهديدات علنية عبر مواقع “تويتر” و”فيسبوك”، بـ”ضرب وسحل وتأديب” قاووق، حاولنا التواصل مع حسين قاووق، لكنه لم يجب لا على هاتفه ولا رسائل “الواتساب”.
برأي ناشط حقوقي ينتمي لبيئة كوثراني وقاووق، طلب عدم ذكر اسمه، “أن حسين يمثل الشاب الشيعي الذي يعيش وسط بيئة (حزب الله) وهو غير منتم للتنظيم وخارج تبعية الولاء لإيران، كما أن حسين لا يهمه الصراع الإقليمي ويريد أن يعيش حياته وشبابه بعيداً من الولاء الديني ونظريات ولاية الفقيه ودولة الإمام المهدي، حسين يعبر عن الواقع كما هو وعن أوجاع المجتمع الشيعي غير المنتفع من إيران”.
نقد البيئة الشيعية “ذاتي”
الكاتب والمخرج محمد الدايخ شريك الممثل حسين قاووق في بعض أعماله، يقول لنا، إن “انتقاد البيئة الشيعية التي ينتمون إليها بمثابة نقد ذاتي”، الدايخ الذي لا يحبذ استعمال تعبير “البيئة الشيعية” بل الطائفة أو المجتمع، يعتبر أن هناك كثيرين ينتقدون هذه البيئة، أما هو فيحاول ترجمة هذا النقد في قالب كوميدي أو درامي أو مسرحي أو سينمائي.
وينفي الدايخ فكرة أن يكون قد عانى فكرة التنميط أو الإسقاطات بوصفهم يتبعون لـ”حركة أمل” أو “حزب الله”، لكن يعتبر أن هناك من وصفهم بأنهم من هذه “البيئة”، ويقول إنهم يعملون بالفن، ومن الممكن أن تكون شيعياً أو مسيحياً أو غير ذلك، ولكن “لأننا خرجنا من هذا الشارع، تماماً كالناس السود في أميركا الذين ينتقدو بيئتهم، “ماذا سنطرح، هل نطرح مشكلات اليابان؟”.
وعن المضايقات التي تحدث عنها الإعلام، يقول “إنه على العكس لديهم جمهور عريض يحبهم في الضاحية، وأقاموا “ستاند أب” كوميدي في الجنوب في منطقة كفرمان النبطية، وشاهدهم أكثر من 1500 شخص”. ويعتبر الدايخ أن سبب هذه المحبة والقبول من الجمهور، قولهم للحقيقة، “هم لا يختلقون الواقع، بل يصفونه”.
وبالنسبة إلى ما تردد عن أن قاووق والدايخ لا يستطيعان أن يذهبا إلى مناطق الضاحية الجنوبية، يبتسم الدايخ ويقول إنه لا يعيش هناك، ولكن أهله وأصدقاءه يعيشون في تلك المنطقة، ويؤكد أن صديقه قاووق لا يزال يعيش في منطقة “الصفير” في الضاحية، وعلى العكس يشاركهم الجلسة شباب يتبعون لـ”الثنائي الشيعي” ويضحكون على الفيديوهات نفسها، لأنها تعبر عن “مصائب” المجتمع.
غسل دماغ منظم
يصف شاب يتبع لجمهور “الثنائي الشيعي”، أيضاً طلب حجب اسمه، أن حالة كوثراني، “ليست الوحيدة اليوم في بيئة (حزب الله)”، ويقول إن ليس كل الشيعة هم “حزب الله”، ويعبر عن سياسة الحزب ما يقوله مسؤولوه وخطباؤه، مما يعني ما يقوله الحزب هو الصحيح، سواء كان كذلك أو العكس، ومن يسمع الأبواق التابعة للحزب كيف تتكلم وطريقتها بتسطيح العقول، وغسل الأدمغة، يستنتج مباشرة أن محمد كوثراني نتاج هذه البيئة، ويعتبر هذا الشاب أن كلام كوثراني مثير للسخرية والضحك، من ناحية الأفكار الاقتصادية الغريبة العجيبة، وكيف لمهندس ثقافي أن يتكلم بالاقتصاد، ويتساءل عن معنى “مهندس ثقافي”؟.
يعتبر هذا الشاب، الذي يصف نفسه بالمراقب لـ”البيئة الشيعية”، أن الموضوع الذي تكلم عنه كوثراني يدغدغ عقول جمهور “حزب الله”، لكن أغلب جمهور “حركة أمل” انتقد وسخر من تلك الفيديوهات، ما استدعى الرد من جمهور الحزب، الذي اعتبر أن من يمس كوثراني كأنه يمس السلاح، ويتابع المراقب، أنه وعلى ما يبدو أن أمراً أتى كي لا يسمح لأحد أن ينتقد أو يسخر من أفكار الكوثراني، “وهذا غريب جداً”، وذهب بعضهم إلى القول إن كوثراني صديق القائد عماد مغنية، ما يدل على مستقبل غير مشرق للطائفة الشيعية على المستوى الثقافي.
ويتابع أنه بالنسبة إلى قاووق فيصيب بسخريته الواقع المعيشي عند الطائفة الشيعية لأنه يصف الواقع، “سخرية قاووق أصابت الهدف أكثر بكثير من أي فكرة تكلم عنها كوثراني”، كما أن فيديوهات الأول ساعدت على تعرية غسل الدماغ والبروباغندا اللذين يحاول “حزب الله” أن يسوق لهما دائماً.