جولة على قاموس “حزب الله” الخاص بمرشّحي الرئاسة: عبارات مشوّهة لأهداف واضحة!
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
تطالب قوى سياسيّة لبنانيّة، يتقدّمها “حزب الله”، بأن يكون رئيس الجمهوريّة المقبل “رئيسًا توافقيًّا”، حتى تقبل بتوفير النصاب المطلوب لانتخابه في المجلس النيابي.
ويقف كثيرون في الصف، مردّدين هذه الصفة، من دون الإنتباه إلى أنّها غير متوافرة في أيّ شخص يحترف السياسة، ليس في لبنان فقط بل في العالم أيضًا، لأنّ صفة “الرئيس التوافقي” لا تكتسب إلّا في ضوء التقييمات التي تُعطى بعد ممارسة فعليّة.
وإذا اعتمدنا قواعد تفسير العبارات يتبيّن أنّ المرء ليكون “رئيسًا توافقيًّا” يجب، بادئ ذي بدء، أن يكون قد شغل منصب الرئاسة سابقًا، وإلّا فمن أين يمكنه أن يحصل على لقب “رئيس”؟
ومن ثم، وفي أثناء ممارسته مهام منصب الرئيس، يكون قد قدّم الأدّلة والإثباتات على أنّه رجل “توافقي”، لأنّه، وفق التقييمات المتّفق عليها، أدار الخلافات بين الأطراف المتباينة وحلّ الإشكالات الطارئة ب”توافقية”، فلم يدلّل هذا ويظلم ذاك، ولم يصغر أمام هذا ويستصغر ذاك.
وحين جرى انتخاب العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهوريّة، في العام 2008، أعطاه الجميع لقب “الرئيس التوافقي”، ولكنّه، في السنتين الأخيرتين من عهده، وعلى خلفيّة المواقف التي أطلقها والطروحات التي قدّمها، حتى يُخفّف من وطأة سلوك “حزب الله” الداخلي والإقليمي على لبنان، ألقى عليه “الممانعون” صفة “الرئيس الصدامي”، وهم يثابرون على استهدافه، حتى بعد أكثر من ثماني سنوات على خروجه إلى منزله.
ولو أنهى الرئيس سليمان ولايته الرئاسيّة، كما استهلّها، تاركًا البلاد تصل إلى حيث أوصلتها “حكمة” خلفه و”صلابته” و”رؤيويّته” و”قوّته”، لكان اليوم هو الشخص الوحيد الذي يمكن أن تنطبق عليه صفة “الرئيس التوافقي”، ولكنّه، بمجرّد أن اغضب “حزب الله” خسر هذه الصفة الى أبد الآبدين، من دون إعارة أيّ قيمة لتقييمات أطراف كثيرة في البلاد لممارساته في أثناء ولايته الرئاسيّة.
وقبيل موافقة الأكثريّة النيابيّة على انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة في العام 2016، تحدّث كثيرون عن أنّه تغيّر كثيرًا، وأعاد تموضعه حتى أصبح “رئيسًا توافقيًّا”، لكنّ عون، لم يُظهر، خلال ولايته، “توافقيّته” في شيء، بل حاول إرغام الجميع على أن يوافقوا على ما يريد هو فرضه فرصًا على البلاد، بما يتلاءم وتوجّهات “صانع رئاسته” الحقيقي والفعلي: “حزب الله”.
إذن، إنّ الإصرار على انتخاب “رئيس توافقي” هو إصرار على عدم انتخاب أحد، لأنّ هكذا شخص منعدم الوجود.
في المقابل، فإنّ الدعوة التي يمكن أن تستقيم هي تلك التي تدعو الى التوافق على مرشّح من أجل انتخابه رئيسًا للجمهوريّة.
وكلمة “التوافق” تعني أن يتولّى طرف قادر على التواصل مع جميع الأفرقاء وضع لائحة بأسماء الشخصيات المؤهّلة لموقع الرئاسة، على أن يقترح، بنتيجة المشاورات، الشخصية التي التقت عندها، الأكثريّة.
ولكن ما يحصل في لبنان أنّ الفئة التي طالما دعت الى التوافق تلطّت خلف هذه الكلمة، إذ إنّها، في الواقع، تريد فرض مرشّحيها فرضًا على الآخرين، بحيث ينتهي الإستحقاق الرئاسي الى انتصارها هي وهزيمة خصومها، وفق ما سبق أن حصل عندما رعت فراغًا دام أكثر من سنتين ونصف السنة، حتى تؤمّن ظروف “التوافق” على العماد ميشال عون.
وحتى تستقيم عمليّة إخفاء “الفرض” تحت قناع “التوافق”، أخرجت القوى المتورّطة بهذا “التشويه اللفظي” من القاموس الذي ابتدعته صفة “مرشّح التحدّي”.
ولكن، كيف يُمكن أن تُصبح كلمة “التحدّي” مرفوضة طالما أن ّ الدعوة هي الى انتخابات وليس إلى تعيين؟
في الواقع، إنّ المعنى الجوهري لكلمة “انتخابات” يسقط إذا ما جرى حظر التحدّي ومنعه.
وعليه، متى يكون لـ “التوافق” قيمة في تشكيل السلطة؟
هنا، لا بدّ من اللجوء الى مسار التحكيم، إذ إنّه عندما يختلف طرفان على تطبيق عقد بينهما، يمكن أن يلجآ إلى التحكيم، وحينها، فهما محكومان بالتوافق على الهيئة التي سوف تفصل في الخلاف بينهما.
ويجهد كلّ طرف في أن يكون رئيس لجنة التحكيم وأعضاؤها غير منحازين لطرف دون الآخر، حتى يعطوهم صلاحيات البت بالخلاف الناشئ، وإصدار الحكم الواجب التنفيذ.
وهذا المنطق التوافقي يسحب نفسه على محاكم الجنايات الأميركيّة، إذ إنّ الإّدعاء العام والدفاع، يجهدان حتى لا تكون هيئة المحكّمين منحازة ضدّهما.
إنّ السعي الى التوافق في لبنان على شخصيّة تتولّى موقع رئيس الجمهوريّة، يقتضي إذن، إعادة تعريف دور رئيس الجمهوريّة، لأنّه لا يمكن لعاقل أن يوافق على رئيس “منحاز” لخصمه.
وحتى يستقيم مبدأ “التوافق” لا بدّ من أن يتمّ التسليم بأنّ رئيس الجمهوريّة هو حَكَم يفصل في الخلافات التي رمت لبنان في جهنّم.
ومن أجل تحقيق ذلك، ثمّة شرط لا مناص منه، بحيث يُسلّم الجميع بأنّ الدور الذي سوف يلعبه رئيس الجمهوريّة المنصَّب بعملية توافقية هو الفصل بملفات كثيرة لم يسبق أن أعطى موقفًا حاسمًا منها، فإذا كان قد دافع سابقًا عن سلاح “حزب الله” وتدخّله في حروب الإقليم، يكون مثله مثل الذي يعتبر أنّ “حزب الله” أداة للإحتلال الإيراني للبنان، وإذا كان قد وقف حتى الرمق الأخير إلى جانب دعاة استمرار الوصاية السوريّة في لبنان، يكون مثله مثل الذي كان يناصر الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وإذا كان قد تمسّك بالفاسدين في فريقه يكون مثله مثل الذي يعتبر الفساد فضيلة، وإذا كان يتعاطى مع الدستور على أنّه مجرّد وجهة نظر، يكون مثله مثل الذي يهز الاستقرار في البلاد.
وعليه، فهل إنّ “حزب الله”، طالما أنّه يقود حملة التعطيل من أجل الوصول إلى “رئيس توافقي” ونبذ “مرشّح التحدّي”، مستعد لأن يوافق القوى الأخرى على رئيس من هذه النوعيّة، حتى يكون حكمًا نزيهًا، في الإشكالات التي تثير انقسامات عاموديّة وأفقية في لبنان؟
إنّ تجربة اللبنانيّين الطويلة مع “حزب الله” ودعاة “التوافق” المزعوم، تؤكّد أنّ المطلوب، في الحقيقة، إيصال شخصية منحازة ترتضي أن تتنازل عن صلاحيات رئاسة الجمهوريّة السياديّة لمصلحة الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله، في مقابل أن تتوافق مع القوى التي تنتخبها على توزيع “قالب الجبنة” الى حصص…نسبيّة.
ولا مغالاة، إذا قلنا: إن الطريق إلى جهنّم مرصوف بعبارات مشّوهة!