“حد الطار” فيلم يؤسس للواقعية في السينما السعودية
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
ثنائية الموت والحياة، هي ثنائية حاضرة في كل زمان ومكان، تنقلها لنا السينما بحكايات ومعالجات متنوعة، وفي فيلم “حد الطار” تأتينا من قلب الأحياء الشعبية السعودية، أين يختلف الواقع المعيش وأزماته عن بقية المجتمعات السعودية الأخرى، وعن العالم خارج المملكة، فيقدم لنا صورة شديدة الواقعية لم تكن متاحة في الماضي ولا كان الحديث عنها وتصويرها أمرا سهلا.
خلقت الحياة والموت معنا، لا تفنيان إلا بفناء الإنسان، ذلك المخلوق العجيب الذي يركض طول حياته هربا من الموت وخوفا منه، مصرا على تمسكه بالحياة رغم أنه قد يبدي سلوكا معاديا لها. ولأن الحياة والموت نقيضان يسيران على نفس المسار، قد نجد في المجتمع نفسه بل في البيت نفسه وجهين لهما دائمي الصراع والتنافس.
هذا الصراع الذي يصوره الواقع المعيش في كل زمان ومكان، لا يمكن إلا أن يحملنا إذا ما اهتممنا به نحو قصص وحكايات مثيرة للانتباه، مستفزة للفكر ومعبرة عن واقع الشعوب على اختلافها.
إنه صراع يصوره فيلم “على حد الطار” للمخرج السعودي عبدالعزيز الشلاّحي الذي عرض في أيام قرطاج السينمائية لأول مرة أمام جمهور تونسي، فكان بالنسبة إليه أول النماذج السينمائية المكتشفة عن بلد لطالما كان منغلقا على نفسه وكانت كل المعلومات المتاحة عنه مجرد أخبار قد تصدق أو تكذب.
ويشارك في الفيلم، الممثل: فيصل الدوخي (دايل)، والممثلة أضوى فهد (شامة)، ومهند الصالح (عتيق)، وسامر الخال (مبارك)، وإبراهيم ميسيسبي (خليل)، وراوية أحمد (بدرية)، وعجيبة الدوسري (منوة) وآخرون.
الجلاد هو المنقذ
يأخذنا عبدالعزيز الشلاحي، بالكثير من الذكاء الإخراجي لاكتشاف الأحياء الشعبية في المملكة العربية السعودية، بكل تفاصيلها وعاداتها وضوابطها وحتى مشكلاتها وصراعاتها النفسية والفكرية.
وهو يصور لنا خبايا حياة الطبقة الكادحة في حقبة التسعينات من القرن الماضي، حيث يناقش الفيلم فكرة الطبقية والاختلافات المجتمعية من خلال الشخصيتين الرئيسيتين دايل وشامة اللذين لا تقتصر الاختلافات بينهما على أصولهما العائلية فحسب، بل تتوسع لتشمل الاختلافات الاجتماعية والفكرية.
يحب دايل شامة، لكنه لا يستطيع الزواج منها، فعمه يمنعه من الزواج بابنة “طقاقة” (عازفة طار)، وتفشل كل جهوده للإقناع، ليجد نفسه في الآخر مجبرا على إكمال سيرة والده “السياف” فيصبح سيافا مثله، يطبق الحدود ويشرف على إعدام المساجين، ويجد نفسه وجها لوجه أمام شامة التي تترجاه للزواج بها علها تنقذ بمهرها ابن خالها “سرور” المحكوم بالإعدام لدفاعه عن شرفه.
وبكادرات منوعة، وزوايا تصوير تتبع تفاصيل الشخصيات وتركز على مواهبها ومدى قدرتها المبهرة في التمثيل، وبألوان هي أقرب إلى حالة الغموض والاضطراب المسيطرة على الفيلم، يصور لنا “حد الطار” منذ لحظاته الأولى حالة الصراع النفسي الكبيرة بين الإنسان ونفسه وبينه وبين الآخر، وكذلك بينه وبين المجموعة. وفي نهايته، يصدم المشاهد بنهاية غير متوقعة، يصارع فيها البطل “دايل” نفسه ليقرر التضحية من أجل حبيبته “شامة”، التضحية بأن دفع فدية “سرور” وأنقذه من موت محتم وهو الجلاد الذي كان موكلا إليه تطبيق “حد الله” عليه.
واستطاع الفيلم أن يصور لنا بموضوعية، مسألة الطبقية في المجتمع السعودي، فقد خلق بيئة حميمية وتفاعلية في الحارة التي تسكنها الشخصيات، وتتصارع في داخلها، لكنه صور لنا الطبقية أيضا بداخل الحارة نفسها، حيث يتحكم القوي في مصير الضعيف فتصبح فرص ارتقائه السلم المجتمعي نادرة جدا وتخضع لضوابط الأقوياء، كما تفرض هذه الطبقية على الشخصيات حتمية البقاء في نفس المكان، فمهما كان حجم مدينة الرياض، فإن شخصيات القصة عالمها لا يتخطى حدود الحارة الضيقة عليها وعلى أحلامها.
والفيلم أيضا يقول لنا إن “الطار” أو “الطق” كان في الماضي القريب، أمرا مرفوضا من المجتمع السعودي، إذ يمكن للطقاقة أن تعيش بين الناس لكنها ستعيش مقيدة وملاحقة أمنيا في كل وقت، وستلحق اللعنة بأبنائها. وهو أمر بدأ المجتمع يتخلّص منه تدريجيا بعد دخوله مرحلة جديدة من التغيير يقودها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وإن كانت مرحلة يستنكرها عدد من العرب والمسلمين عبر العالم، إلا أنها مكنت الفنون عامة من نقل صورة أكثر “حياة” و”واقعية” عن المملكة، وخير مثال على ذلك أن الدراما في السابق لم تنقل لنا قصصا شديدة الواقعية عن الطبقة السفلى من المجتمع، كما فعل “حد الطار” وأفلام أخرى لحقته.
و”حد الطار” كان يمكن أن يكون حدا حقيقيا أو ربما هو بالفعل كان في السابق وتحديدا في التسعينات حين كانت المملكة منغلقة على نفسها وحدودها الاجتماعية ومحافظة أكثر مما يمكن أن يستوعبه العقل البشري، لكنه قد لا يكون منطقيا اليوم بعد أن بدأت البلاد تتلمس خطواتها نحو الوسطية والاعتدال والحياة المتوازنة التي لا تميل أي واحدة من كفتيها نحو التطرف يمينا كان أو يسارا.
قصص واقعية
يشير مخرج العمل، عبدالعزيز الشلاحي إلى أنه استلهم قصة الفيلم من محور مهم، وهو التناقضات التي تمارس في الكثير من المجتمعات بكل دول العالم، من دون التفكير في نتائجها وتوابعها. فبطل الفيلم “دايل” يكره عالمه الذي لا ينتمي إليه إلا برابط الدم، يقع في حب فتاة تنتمي إلى مجتمع آخر يميل إليه أكثر، يمثل الحرية والروح المثالية المنطلقة، لكن أمام ضغوط المجتمع وصراع التقاليد، يجد نفسه في صراع مستمر بين عالمين، كل منهما يمثل واقعا مستقلا بذاته.
ويقول المخرج عبدالعزيز الشلاحي لصحيفة “العرب” “أنا كمخرج لا أحبذ الاشتغال على القضايا، وتبني قضايا بعينها والدفاع عنها، تلك ليست مسؤوليتي، بل أحب رواية القصص وأترك المجال للمشاهد ليتبنى المواقف والتحليلات التي تتماشى مع فكره ومستواه الثقافي”.
ويتابع “أحب الاشتغال على السينما الواقعية القريبة من الشارع والناس، وأعتقد أن السعودية لا تزال غنية بالكثير من القصص التي لم تطرح وتستحق أن تروى للآخرين وهي مادة ثرية بإمكانها أن تكون نواة أولى لإنجاز أفلام جيدة ومثيرة للانتباه”.
وواصل الشلاحي في تصريحه للعرب “أعتقد أن الطريق أمامنا لا يزال طويلا لنسرد قصصا من واقع مجتمعنا السعودي، بكل ما يحمله من خصوصيات ثقافية”.
ويأتي فيلم “حد الطار” ليكون واحدا من الإنتاجات السينمائية السعودية المحتفى بها محليا ودوليا، حيث رشحته المملكة في العام 2021 لجوائز الأوسكار عن فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية، وفاز طاقمه بالعديد من الجوائز ورأى فيه الكثير من النقاد أنه فيلم يغرّد خارج السرب، يمكن استثناؤه من كل التجارب السينمائية السعودية.
وبالفعل يستحق الفيلم مثل هذه الإشادة، فهو يحمل تقريبا، كل معايير الجودة السينمائية بدءا بالفكرة والسيناريو والإخراج وطريقة معالجته للحبكة الدرامية وتصويره للصراع النفسي والوجداني الذي تعيشه الشخصيات والمتصاعد من بداية الفيلم حتى نهايته.
إنه نموذج من سينما الواقعية التي تحاول كشف سرّ التحولات التي أصابت وتصيب الشخصية السعودية، ويأتي من مخرج واع بأهمية رصد مثل هذه التحولات ويؤكد أن السينما الواقعية قادرة على سرد الحكايات المثيرة وتحطيم التابوهات، وتجاوز كليشيهات السينما، ورصد الواقع في المملكة بصدق شديد.
وفي رصيد عبدالعزيز الشلاحي منذ بدايته عدة تجارب متنوعة، بينها أفلام قصيرة على غرار «عطوى» و«كمان» و«المغادرون»، كما أخرج فيلماً طويلاً بعنوان «المسافة صفر».
ويمكن القول إن تجربة الشلاحي السينمائية، هي تجربة من بين تجارب أخرى محتفى بها في العديد من المهرجانات السينمائية العربية والعالمية، وهو ما يزيد من فرص توسع السينما السعودية وانفتاحها على التجارب المشتركة والمواضيع العربية، لكن مخرج “حد الطار” يرى أن الوقت لم يحن بعد لذلك، ويقول لـ”العرب” “لا مانع لدي في خوض مغامرة السينما المشتركة أو العربية، لكني حاليا أشتغل على الأفلام المحلية والقصص القريبة مني وأترك خطوة التوسع في الاهتمام بمواضيع من خارج المملكة إلى وقت لاحق”.