عن التأويلية والتداولية في الرواية المعاصرة الباحث لمجد بن رمضان يكتب عن رواية “الملائكة لا تطير” لفاطمة بن محمود

النشرة الدولية –

أحدث إصدارات الباحث التونسي لمجد بن رمضان بعنوان “مسالك الإبلاغ ومقاصد التأليف في الخطاب الروائي المعاصر “الملائكة لا تطير” لفاطمة بن محمود نموذجا” صدر عن دار الكتاب بتونس للشاعر الحبيب الزغبي في حجم متوسط يمتد على 200 صفحة على غلافه لوحة للفنان التونسي ماهر الساحلي وقدّم لهذا الكتاب الناقد المغربي الدكتور عبد المالك أشهبون.

اختار لمجد بن رمضان في كتابه النقدي فهم الخطاب الأدبي المعاصر على ضوء كل من الفلسفة التأويلية والمقاربة التداولية واستثمر رواية “الملائكة لا تطير” كنموذج قال بن رمضان ان اختياره لهذه الرواية “يعود لما تتوفر فيها من مزايا عديدة تجعلها تستجيب إلى جملة الأفكار والمفاهيم النظرية التي شيّدنا عليها الرؤية النقدية بل هو يطاوع أيضا مختلف المناهج النقدية الأخرى ويمكن دراسته على ضوء مقاربات عديدة وهذه سمة لا تتوفر في جل النصوص الصادرة في العقود الأخيرة”.

أشار الناقد المغربي عبد المالك اشهبون في تقديمه للكتاب “أن الباحث يمتلك أسلوبا أدبيا رشيقا يشعر القارئ أنه إزاء عمل نقدي فيه جهد مبذول من باحث متمرس تمكّن من بناء تصور منهجي متكامل في مقاربة للعمل المدروس سواء على مستوى التنظير أو التطبيق (….) وانتباهه إلى أهمية عنصرين هما التأويلي والتداولي” ص 17.

أقسام الكتاب:

قسّم الباحث بن رمضان إلى أربعة أجزاء:

الجزء الأول: في طبيعة المقاربة النقدية، وتناول فيه أهم مفاهيم التأويلية والتداولية مثل مفاهيم الفهم ومبدأ التعاون والتأدب ونظرية الحجاج الجديدة.

في الجزء الثاني: بلاغة الخطاب في رواية الملائكة لا تطير وتناول فيها أهم أشكال البلاغة مثل بلاغة العنوان والاهداء والتوزيع والسرد والحوار والوصف..

في بلاغة التوزيع أشار الباحث بن رمضان أن المؤلفة استفادت بشكل كبير من تقنيات كتابة السيناريو والتصوير السينمائي وهو يأتي من أجل إلغاء الحدود بين الفنون.

تجدد الخطاب الروائي:

في بلاغة السرد أشار الباحث بن رمضان أن المؤلفة لم تساير النموذج التقليدي حيث نجدها تتردد في المشاركة في الحكاية أو الاكتفاء بفعل الحكي فقط وفي ذلك إحالة على رواية الياطر لحنا مينة غير أننا نلاحظ تداخل بين الساردة وبطلة الرواية في مرحلة أولى وتداخل بين الساردة والمؤلفة في مرحلة ثانيةوهو “اجراء لإثارة الالتباس في ذهن القارئ بين شخصيها كمؤلفة والساردة والشخصية في مستهله ثم فك الارتباط بينها يستهدف في مقام اول استهواء القارئ والاستحواذ عليه بطريقة جديدة” ص 81.

لذلك يقول الباحث بن رمضان “ان هذا النص الروائي يقدم خطابا روائيا يختلف عما ألفه ولكنه في الآن نفسه لا يقطع نهائيا مع التراث الروائي

في بلاغة الوصف يتناول الباحث بن رمضان الشخصية ( ص 99) فيشير إلى “مسلك التناص” ويعني التوسل بخطابات أخرى يستجلبها من خارج خطابه ليقوي بها المعنى فيه فيقول ان في الرواية استحضار لصورة المسيح عيسى بن مريم في حادثة الصلب وهو يصرخ “إلهي لماذا تركتني؟ وفي ذلك مقارنة بين المسيح والطفلة نور لإبراز مقدار الألم النفسي والجسدي الذي تعرضت له الطفلة فلم تجد المؤلفة أبلغ من تلك الصورة لكي تكسب تعاطف القارئ مع قضيتها.

الجزء الثالث: تعرض فيه إلى مقاصد التأليف في الملائكة لا تطير وتناول فيه الأفق التاريخي والثقافي والمقاصد الفكرية والفنية التي يرى أنها تعرضت إلى قضيتي الابداع والتطرف.

البعد التاريخي:

في الأفق التاريخي مثلا الباحث بن رمضان أن “الأفق التاريخي الذي ينتمي إليه النص يمتد إلى قرون طويلة بحكم انتمائها إلى ثقافة عريقة لكن سنكتفي بالتاريخ القريب وهو من لحظة استقلال البلاد التونسية سنة 1956 إلى لحظة اتخاذ قرار الكتابة سنة 2012 حيث جرت أحداث كثيرة وحدثت تغييرات جوهرية في المجتمع التونسي منها خروج المستعمر، اعلان الجمهورية و بناء الدولة الوطنية الحديثة وصدور مجلة الأحوال الشخصية التي ضمنت حقوقا واسعة للمرأة وحررتها من النظرة التقليدية التي كانت تأسرها ونشر التعليم العصري الخ.. وهي أحداث شكلت هوية المجتمع التونسي (ص 111).

الجزء الرابع: اختار أن يشتغل فيه الباحث بن رمضان على الحكم على جودة النص.

عن جودة النص الروائي عند بن محمود:

يقول الباحث بن رمضان (ص 144) “تعودنا منذ زمن قريب على نمط من التأليف بالغ في هدم البنية الكلاسيكية بدعوى الثورة على الموروث الإبداعي فأنتج لنا نصوصا في بعض الأحيان تسقط في الإبهام فلا نعرف جنسها أو بدايتها من نهايتها ولا إلى أي شيء ترمز أو ماذا تريد أن تقول” في رواية الملائكة لا تطير نجد محاولة جادة لإعادة النظام إلى الكتابة الروائية ونعني به وضوح الرؤية التي تجعل القارئ يحسن الإمساك بالعمل الروائي دون أن يشعر بتناقضات أو خلل كلما تقدم في القراءة فقد أخذت المؤلفة يما يسميه فيصل الدراج “التجريب النجيب” حيث قامت بخرق البنية التقليدية للرواية وللأجناس القصصية عموما ولكنها لم تنتج نصا متصدعا ولم تساير موضة التفكيك المبالغ فيه كما دأب على ذلك الكُتاب في النصف الثاني من القرن العشرين و بداية القرن الحالي ضمن ما عرف بظاهرة الرواية التجريبية. ويضيف الباحث بن رمضان أن رواية “الملائكة لا تطير” نجحت في استعمال ما بات يعرف بتعدد الأصوات حيث استثمر هذه التقنية الجديدة ليجعل الحكاية تروى من زوايا متعددة مما قلص من هيمنة السارد العارف بكل شيء والممسك بمصائر الشخصيات والأحداث يسيّرها كيفما شاء. لكن تعدد الأطراف التي تتقلد مسؤولية السرد في النص قد يربك بعض القراء الذين لا يميزون كفاية بين الحقيقة والخيال الفني ولا يفقهون تقنيات الكتابة الجديدة خاصة في الحالة التي تتكلم فيها المؤلفة كشخصية في النص فقد يعتقد البعض ان النص ككل هو سيرة “فاطمة بن محمود” نظرا للتشابه الحاصل بينها وبين تلك الشخصية التي تقلدت دور المؤلفة.

يشير الباحث بن رمضان أن من مظاهر التجديد ايضا إعطاء الهوامش وظيفة جديدة تتمثل في جعلها امتدادا لعملية الحكي بعد أن كانت في السابق توضع لشرح المفردات أو بعض العبارات الغامضة، هذه الزاوية كانت بمثابة المنفذ للعودة من حين لأخر إلى القصة الإطار او لاستباق الأحداث أو بعض الإسترجاعات الضرورية لتغطية النقص الحاصل في أقوال الساردة أو للتلاعب بتوقعات القارئ ص 146.

عندما تتكلم المؤلفة:

في الخاتمة اختار بن رمضان أن يجعل للروائية فاطمة بن محمود صوتا في هذا الكتاب من خلال حوار خصّت به الباحثالذي جعل أسئلته محددة بمحاور هي الرؤية الإبداعية عند بن محمود و نشأة النص الإبداعي الملائكة لا تطير و ملامح المشروع الأدبي لها.

هذا الحوار يسلط الضوء على جوانب من الحياة الأدبية للمؤلفة اذ كشفت مصادر الالهام لديها وطريقة تعاملها مع الكتابة فهي تقول مثلا في محور رؤيتها الإبداعية وتحديدا في خصوص قراءاتها الأدبية “أكره البرمجة في كل شيء لكن أحب التنظيم لكل شيء، أحب أن أقرأ و أنا متحررة كليا من الأحكام المسبقة” ص 161 كما تقول “أنا مدينة للنقد في الكثير من الذي تعلمته و أعتبره الأستاذ الذي يرافقني دائما لا ينزعج من أسئلتي ولا يتعب من الحديث إليّ” ص 165.

في محور علاقة المؤلفة بروايتها “الملائكة لا تطير” تشير بن محمود أنها “ككاتبة في خدمة الرواية حتى أقول ما أريد و ليست الرواية في خدمتي لتقول ما أريد” ص 174.

تقول بن محمود “لو كنت أبحث عن الأجوبة الجاهزة كنت أذهب الى الايديولويجا أو الدين اما وقد اخترت أن أذهب الى عالم الكتابة فاني أبحث عن معادلة أخرى للعالم وعلاقة مختلفة مع ذاتي لذلك أعتقد ان الأدب مثل الفلسفة رؤية للعالم ومهمته طرح الأسئلة والوقوف مع القارئ في أرض الشك بعيدا عن المسلمات واليقين.

عن ملامح مشروعها الأدبي تقول بن محمود اني لا أكتب في هذه الخانة التي تفترض أن المرأة ضحية، لأني اعتبر الرجل نفسه بل المجتمع أيضا ضحية العقلية الذكورية نفسها التي تعبر عن ترسبات الجهل و تشده إلى مسلمات واهية في التمييز بين أفراده من منطلق الجنس التي أجدها معايير غير إنسانية” ص 181.

تضيف بن محمود ” الكتابة عندي مقاومة للنسيان (..) وفي كل ما أكتبه أعتقد ان هناك خيطا ناظما يحمل نفس التوهج و القلق والأسئلة لذلك اعتقد ان كل نص أدبي له خصوصيته، كل نص مغامرة أدخلها بوعي و أغادرها بأسئلة متجددة وأنا أدرك ان دور المبدعطرح الأسئلة وليس الرد عليها” ص 188.

في الختام..

في نهاية الكتاب ضبط بن رمضان قائمة بالمصطلحات الواردة في الدراسة وأخرى بقائمة النصوص الروائية المذكورة وبقائمة للمراجع من كتب مختلفة ومقالات ومعاجم تشير إلى الدقة العلمية التي اعتمد عليها بن رمضان في انجاز هذا الكتاب.

لمجد بن رمضان طالب دكتورا في جامعة ليون 3إضافة انه أستاذ باحث يدرّس في الجامعة ويهتم في منجزه البحثي بالمدارس النقدية الحديثة وله أربع مؤلفات خاصة به من بينها “الخطاب الأدبي والتلقي” وأربع كتب أخرى أنجزها بالاشتراك مع باحثين من تونس والوطن العربي مثل كتاب “اللسانيات ومناهج النقد الأدبي”.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى