الجفاف فاقم «الكارثة» ودمر المجتمعات الريفية…. «الهلال الخصيب» يتلاشى في الشرق الأوسط مع ندرة الأمطار

النشرة الدولية –

ظل عباس علوان يعاين البئر تلو الأخرى في محاولة يائسة للعثور على المياه لمزارع عائلته في جنوب العراق، وبعد أن باءت محاولة جديدة بالفشل في أغسطس الماضي، أخذ مسدساً في إحدى الليالي وانسل في جنح الظلام، حسب تقرير لوكالة رويترز.

عثرت، حكمة متعب، على جثة زوجها في اليوم التالي مصاباً بطلق ناري في الرأس في قناة ري جافة بالقرب من الأرض القاحلة، التي كانت تنتج ما يكفي من القمح والشعير لعائلة علوان الكبيرة.

وقال علي، شقيق عباس (56 عاماً) لـ«رويترز»، «كان هذا آخر أمل لديه».

وبينما يجتمع زعماء العالم في مصر في قمة المناخ لمناقشة قضايا تشمل المياه والأمن الغذائي، تسلط محنة علوان الضوء على الأزمة التي يواجهها العراق، ودول الشرق الأوسط الأخرى، والتي يمكن أن تغذي المزيد من الاضطرابات في المنطقة حيث تتصارع المجتمعات على موارد المياه المتضائلة.

تحدثت «رويترز» إلى أكثر من 20 شخصاً في خمس محافظات في أنحاء العراق، قالوا جميعاً إن الجفاف الذي طال أمده، والذي تفاقم فقط في السنوات الأخيرة، يعيق سبل العيش. ويعاني المزارعون في الجارتين سورية وتركيا تراجع الأمطار.

وقالت بعثة الأمم المتحدة في العراق إن «تغير المناخ حقيقة واقعة في العراق»، مضيفة أن العراق يحتل المرتبة الخامسة في العالم بين الدول الأكثر عرضة لتداعيات الاحتباس الحراري، بسبب ارتفاع درجات الحرارة وتراجع هطول الأمطار والملوحة والعواصف الترابية.

وفي العراق، قال مسؤولون وخبراء في المياه، إن الأمطار جاءت متأخرة وكانت تتوقف في وقت أبكر في كل عام من الأعوام الثلاثة الماضية.

وتعرض العراق وهو جزء من منطقة «الهلال الخصيب»، وهي قوس يمتد من البحر المتوسط ​​إلى الخليج العربي، حيث تطورت الزراعة منذ أكثر من 10 آلاف عام، للدمار بسبب ثلاثة عوامل وهي انخفاض هطول الأمطار، والصراع على مدى عقود، وانخفاض تدفق المياه في النهرين الرئيسين دجلة والفرات.

وقال الرئيس العراقي، عبداللطيف رشيد، في قمة المناخ بمصر الأسبوع الماضي، إن التصحر يهدد الآن ما يقرب من 40% من مساحة بلادنا، الدولة التي كانت في يوم من الأيام واحدة من أكثر الدول خصوبة وإنتاجية في المنطقة.

وقال الأستاذ في جامعة لوليا السويدية للتكنولوجيا، نذير الأنصاري، إن معدل هطول الأمطار في العراق انخفض بنسبة 30% على مدى العقود الثلاثة الماضية، مع أدنى منسوب في العامين الماضيين.

وأضاف أن ما كان يعرف سابقاً بالهلال الخصيب بدأ يتلاشى منذ نحو 35 عاماً.

وقال خبير الطاقة والمياه المستقل في واشنطن والزميل البارز في معهد الطاقة العراقي، هاري إستيبانيان، إن «انخفاض كميات المياه المتدفقة من تركيا عبر نهري دجلة والفرات جعل العراق في وضع أصعب عندما جفت الأمطار. وتعتمد البلاد على النهرين أكثر من أي مصدر آخر للري». وأضاف «الأمطار والمياه الجوفية أصبحتا (مصدرين) مهمين للغاية».

وتقول بغداد إن السدود في المنبع، خصوصاً في تركيا، تفرغ أنهارها. وتقول تركيا إنها لم تغير مجاري الأنهار أو تقطع أي مياه.

وقال سفير أنقرة في العراق في يوليو الماضي، إن الجفاف ضرب تركيا أيضاً، وإنه ينبغي للعراق إدارة إمداداته بعناية أكبر بدلاً من طلب المزيد من المياه.

وأظهرت بيانات من وكالة الأرصاد الجوية التركية أن هطول الأمطار هذا العام حتى سبتمبر كان أقل بنسبة 29% من متوسط ​​العقود الثلاثة السابقة، وأن الوضع كان أسوأ في عام 2021 في جنوب شرق تركيا، الذي ينبع منه نهرا دجلة والفرات.

وقال خبير المياه إستيبانيان إن مزيج السدود والجفاف أدى إلى تقلص مياه النهرين اللذين يتدفقان إلى العراق هذا العام إلى خُمس المستويات السابقة فقط.

وأضاف أن الاستخدام غير الكفؤ للمياه التي يحصل عليها العراق، بسبب سوء الإدارة والاستيلاء غير القانوني على الإمدادات، والبنية التحتية القديمة، التي تسمح بتسرب المياه بعد عقود من الحرب تضافرت مع النمو السكاني السريع لتفاقم الأزمة.

وفشلت ما يقرب من 90% من المحاصيل التي تتغذى على الأمطار، ومعظمها من القمح والشعير، هذا الموسم وفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) في العراق.

وقبل عام 2020، كان بإمكان العراق إنتاج ما يقرب من 5.5 ملايين طن من القمح. وقال صلاح الحاج حسن ممثل «الفاو» في العراق لـ«رويترز» إن الحكومة تسلمت العام الماضي 2.1 مليون فقط.

في مزرعته بالديوانية، حصل عباس علوان على إعانة بطالة قدرها 200 دولار شهرياً، لكنه وقع في الديون مع تضاؤل المحصول وارتفاع أسعار الغذاء.

وفي محاولة يائسة، حاول عباس، الذي كان عمره 62 عاماً عندما انتحر، حفر الآبار حتى يتمكن من زرع الخضراوات.

وتكلف حفر كل بئر ما يوازي الإعانة الشهرية التي حصل عليها، وفي كل مرة كانت البئر تمتلئ بالمياه لبضعة أيام ثم لا تلبث أن تجف. وقال علي علوان إن عائلته تعاني الآن حتى للحصول على مياه الشرب.

وقرية «البوحسين» التي يقطنون فيها هي واحدة من قرى كثيرة على ضفاف القناة السابقة، التي جف مجراها تماماً الآن، والتي كانت تشكل جزءاً من شبكة من التفريعات المائية شرق نهر الفرات.

وفي قرية البوزيات القريبة، غادر الكثيرون إلى المدن أو إلى محافظات أخرى بحثاً عن عمل. وقالت هدية عودة، وهي واحدة من السكان القلائل الذين كانوا بالقرية عندما زارتها «رويترز» في أكتوبر الماضي، إن «القرية فارغة».

وتوقفت هدية وزوجها عن زراعة القمح والشعير قبل ثلاث سنوات بسبب نقص المياه، وباعا ما كان لديهما من ماشية، وكانا يضطران لقطع نحو 60 كيلومتراً مرتين شهرياً لشراء مياه الشرب.

وعندما عادت «رويترز» إلى قريتهما في نوفمبر كانا قد هجراها إلى المدينة.

وقال قائم مقام منطقة أل بدير التي تقع بها مزرعة علوان إن «نحو 800 أسرة غادرت القرى». وأضاف «أنا لا أفكر حتى في توفير الماء للزراعة، بل لي شهران الآن وأنا أفكر في كيفية توفير مياه الشرب».

وقال إستيبانيان خبير الطاقة والمياه المستقل، إن استهلاك المياه في العراق ينبغي أن يكون قرب 70 مليار متر مكعب سنوياً، لكنه الآن انخفض بنحو النصف إلى نحو 40 ملياراً.

وقال المسؤول بوزارة الموارد المائية العراقية، أحمد كاظم الخزاعي «سيكون هذا هو موسم الجفاف الرابع على التوالي. التنبؤات الجوية لا تبدو متفائلة والخزانات خارج الخدمة بالكامل».

وفي حين يعانى جنوب العراق بعض أشد حالات النقص في المياه، فإن مناطق قليلة لم تتأثر. وفي شمال العراق وسورية، تضافرت العوامل نفسها من قلة الأمطار ونقص مياه الأنهار مع الصراع والتهميش لتدمر المجتمعات الريفية.

قال مدير عام الموارد المائية بوزارة الزراعة في إقليم كردستان بشمال العراق، كاراوان صباح حمه صالح، إن إنتاج القمح بالإقليم تهاوى نحو 70% هذا العام إلى 300 ألف طن، ما أجبر الكثيرين على حفر الآبار. وأضاف «حفر الآبار ليس حلاً استراتيجياً لكن ليس لدينا بديل سريع».

وعبر الحدود في سورية، انخفضت المستويات بالسدود المقامة على نهر الفرات بما يصل إلى خمسة أمتار تقريباً، ما أدى إلى نقص مستويات الخزانات ومعاناة المزارعين في الوصول إلى الاحتياطي المتبقي من المياه.

ويتهم مسؤولون تركيا بخفض تدفق النهر على مدار العامين الماضيين إلى نصف المستويات التي تعهدت بها في اتفاقية تعود لعام 1987، وهو ما تنفيه أنقرة.

وقال أحمد حمود وهو يقف إلى جوار ضفاف نهر الفرات التي جفت حديثاً في شمال سورية «توقفت عن الزراعة لأن ري الأراضي الزراعية كان مستحيلاً».

واندلعت الحرب الأهلية المستمرة منذ فترة طويلة في سورية في أعقاب احتجاجات مناهضة لنظام الحكم في 2011، بعدما أضرت فترة طويلة من الجفاف بعائدات المحاصيل والماشية ودفعت الأهالي إلى الهجرة للمدن.

وقالت لجنة علمية معنية بالمناخ في الأمم المتحدة في أبريل إن الغليان الشعبي كان نتيجة مباشرة للجفاف، إلا أنها توقعت أن الانتفاضة كانت ستندلع في جميع الأحوال.

وقال سبعة من قادة العشائر والمسؤولين العراقيين إن التنافس على المياه في جنوب العراق يذكي نزاعات وصراعات بين المجتمعات الزراعية.

وقُتل مزارع بالديوانية يُدعى مصطفى قزموز كان يبلغ من العمر 23 عاماً في نزاع قبل ثلاث سنوات، بعدما مدد جاره خط أنابيب من إحدى القنوات لتحويل نسبة أكبر من المياه، وذلك وفقاً لما قاله حيدر أخو قزموز. وأضاف «لو كان هناك مياه لما بدأت مثل تلك المشكلات».

وفي أكتوبر أظهر مقطع مصور نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي قوات الأمن وهي تشتبك مع مزارعين عند قناة في المثنى. وقال عبدالوهاب الياسري نائب المحافظ لشؤون الزراعة والمياه بالمحافظة الجنوبية، إن 30 شخصاً أصيبوا وألقي القبض على 11. وأشار إلى أن الشجار نشب عندما بدأ موظفو وزارة المياه استبدال أنبوب توزيع في القناة لأن مستويات المياه كانت انخفضت دون مستواه. وخشي السكان في منطقة المصب أن يكون الهدف من ذلك الإجراء هو تحويل المزيد من المياه بعيداً عنهم.

وقال الزعيم العشائري، مقصد رحيم، وهو يقف بجوار فرع يوشك على الجفاف من تلك القناة إنه يتذكر عندما كان ذلك الفرع مملوءاً بالمياه الصافية والأشجار الخضراء من حوله.

وأضاف «يوجد الآن الكثير من العواصف الرملية لأنه لا توجد نباتات أو أشجار لحمايتنا».

 

زر الذهاب إلى الأعلى