الدولة اللغز التي فضّها الفاتيكان
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

بأقل قدرٍ من الضجة، أقال بابا الفاتيكان رئيس وحكومة دولة “فرسان مالطا”، وشكّل لها دستورًا وحكومة جديدة مؤقتة إلى حين انعقاد اجتماع عام لرجال الكنيسة، مطلع العام المقبل، ليصار إلى تعيين أو انتخاب رئيس جديد لهذه الدولة /المنظمة.

وحصل هذا، في الثالث من الشهر الماضي؛ حيث كان الحدث الثاني من نوعه خلال العام الحالي، بعد غزو روسيا لأوكرانيا، الذي تتعرض فيه دولة ذات سيادة إلى تدخّل من دولة ذات صلة ومصلحة وحيثيات، بغض النظر إن كانت هذه الحيثيات مقنعة أم لا.

وفي موضوع إطاحة رئيس دولة “فرسان مالطا” وحكومتها ودستورها، للموضوع صلة بالقدس والمقدسات والقضية الفلسطينية، تأخذ محلّها في الجدل الراهن الذي فرضته عودة بنيامين نتنياهو إلى شرق أوسط، واضح أنه يتغير فعلًا.

وبعض أسباب الحديث السياسي في موضوع ضمّ أو تتبيع دولة فرسان مالطا لدولة الفاتيكان، مردّه إلى أن الأولى غير معروفة كفاية، وما هو متداول عنها أنها سيرة تاريخية طويلة عمرها 1000 سنة، مُسربلة بالغموض، وهواجس، واتهامات المؤامرة.

بالمقارنة مع أعضاء نادي الدول الأوروبية الصغرى، والذي يضم: الفاتيكان، ولوكسمبورغ، وأندورا، وليختنشتاين، وسان ريمو، فإن دولة فرسان مالطة كيان سيادي دون أرض أو سكان، مقرّها قصر مالطا في مدينة روما، وتعد رسميًا دولة ذات سيادة بحسب القانون الدولي.

وتمتلك صفة عضو مراقب في الأمم المتحدة، واليونسكو، والوكالة الدولية للطاقة النووية، ومفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وتصدر جوازات سفر خاصة لأعضاء المنظمة البالغ عددهم في العالم حوالي 13500 شخص، من بينهم 50 رجل دين.

وتوظف دولة فرسان مالطة أكثر من 45 ألف شخص حول العالم، ويتطوع في صفوفها حوالي 100 ألف آخرين، وتقدر عوائدها من تبرعات الأعضاء بحوالي 2.3 مليار دولار، ولها سفارات في 8 دول عربية في بلاد الشام، وشمال أفريقيا، وما يناهز 28 دولة إسلامية.

ولأنها لا تمتلك أرضًا ولا شعبًا، لم تتبادل مع الولايات المتحدة السفراء، كما أنه ليس لها علاقات دبلوماسية مع بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل.

يُسمونها “الدولة اللغز”

تُعرّف هويتها بأنها جماعة دينية علمانية، ازدواجية تظهر في اسمها الذي يحمل السمة العسكرية، وجاء قرار الفاتيكان، الشهر الماضي، ليلغي منه الطابع المسلّح ويحصرها في القضايا اللاهوتية، منهيًا بذلك تاريخًا للمنظمة عمره قرابة 1000عام، نشأت وتخصصت فيه بحماية ورعاية الحجاج المسيحيين للقدس، واكتسبت منه خصوصيات التسليح والغموض في الأهداف.

ونشأةُ “فرسان مالطة” معروفة؛ حيث تأسست كمنظمة كاثوليكية بحدود، العام 1099 في بلاد الشام بعد الحملة الصليبية الأولى، دامت حوالي قرنين توسعت خلالها فشملت فلسطين، ولبنان، وأجزاء من الأردن، وسوريا، وسيناء. وبعد هزيمتها انتقلت إلى مالطا، وبعدها إلى روسيا إلى أن تحول مقرها إلى الفاتيكان في روما العام 1834.

وفي كل مراحلها، كان هدفها السياسي والعسكري، بالإضافة للعمل الطبي الخيري، حماية الحق المسيحي في الحج إلى القدس، وهو ما يجعلها ذات صلة بالمقدسات تنافس فيها أو تتقاطع مع الفاتيكان.

وعندما كانت المنظمة تحكم مالطة، منحهم الفاتيكان صفة الدولة وهي الخصوصية العسكرية السياسية الدينية التي احتفظوا بها تحت مظلة الحبر الأعظم، إلى أن جاء قرار البابا فرنسيس، الشهر الماضي، بإعادة هيكلة السلطة لديهم بدعوى حصرهم في العمل الديني الخيري وتتبيع سلطتهم بالكاملة إليه، بانتظار التقنين الإجرائي في شهر يناير المقبل.

القرار البابوي الذي صدر في الثالث من سبتمبر، متضمنًا تتبيع دولة فرسان مالطة للفاتيكان، وجرى تبريره بأنه علاج لمشكلة داخلية في المنظمة / الدولة، أثار ردود فعل تهدد بانقسام في هذا الكيان الأرثودكسي، النافذ الغامض الموصول بمستقبل القدس والأماكن المقدسة.

كان لافتًا أن طرفًا وحيدًا بين المسيحيين العرب المنضوين في عضوية هذه المنظمة التي يرفض هيمنة إسرائيل (اليهود) على المقدسات المسيحية، رئيس المحفل اللبناني، هو الذي اشتكى من قرار البابا، ودعا إلى أسلوب حكم في المنظمة / الدولة، يكون أكثر جماعية.

وسكوتُ بقية المحافل العربية لمنظمة فرسان مالطة، وهم الموصوفون بالتنفيذ المالي والسياسي، ربما كان بدواعي السرية، والنأي بأنفسهم عن صورة ملتبسة للتنظيم الذي يمكن أكثر وضوحًا وجرأة من الفاتيكان برفض دعاوى رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وائتلاف حكومته الذي يُنذرُ بدخول القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية مرحلة جديدة من العنف والاستنفار الإقليمي والأممي.

وفي المواجهة المقبلة بشأن المقدسات، يبدو الرهان الفلسطيني الأثقل هو على الفاتيكان، والكنائس الغربية، والروسية، والإنجليكانية الكندية، وكلها تمتلك من القوة السياسية ما يُمكّنها من لجم جموح اليمين الإسرائيلي المتطرف، ويعوّض في ذلك عن تراخي الموقفين العربي والإسلامي، ويساعد في موضوع القدس والمقدسات في المرحلة المقبلة المبهمة أن الكيميا بين نتنياهو والفاتيكان مضروبة.

وفي أول لقاء بين نتنياهو والبابا فرنسيس بالفاتيكان، في ديسمبر 2013، كانت هدية نتنياهو نسخة مترجمة للإسبانية من كتاب والده المؤرخ الشوفيني، بن زيون نتنياهو، كان نشره العام 1995 عن محاكم التفتيش التي عقدها الأرثوذكس الإسبان لليهود، أراد فيها والد نتنياهو ومُلهمه القول إن الأرثوذكس لهم تاريخ صعب مع اليهود، وكانت هدية وصفتها مجلة “تايم” الأمريكية بأنها غير دبلوماسية (قليلة الأدب) ابتلعها البابا في حينه، ليردها في العام التالي.

وكان لقاءً ظهر فيه نتنياهو مرتبكًا لا يعرف من أين يبدأ الحديث، قال للبابا: “كان يسوع هنا في هذه الأرض يتحدث العبرية”. البابا من طرفه نظر للأعلى وأشار بأصبعه قليلًا، وصحح لنتنياهو بالقول: “تقصد أن يسوع كان يتحدث الآرامية”!!. ارتبك نتنياهو مجددًا ورد مسرعًا: “كان يسوع يتكلم الآرامية لكنه يعرف العبرية”.

موقف البابا فرنسيس من نتنياهو معروفٌ بالبرود، وكان لافتًا في حينه استقباله للرئيس الفلسطيني، قبل موعده مع نتنياهو، هديته لمحمود عباس كانت قلم حبر.. يومها ردّ عليه الرئيس الفلسطيني بالقول: “آمل أن أستخدم هذا القلم للتوقيع على اتفاق السلام مع إسرائيل”.

9 سنوات انقضت على ذلك اللقاء ولم يُستخدم القلم حتى الآن بما تمناه عباس، ولا يبدو ذلك منظورًا.

زر الذهاب إلى الأعلى