“بلوغ” فيلم يصور أشكالا من تمرد النساء على ضوابط المجتمع السعودي
النشرة الدولية –
العرب – حنان مبروك –
تركز المخرجات السعوديات على تصوير معاناة المرأة بطرق مختلفة وبأفكار متنوعة، ومنها فكرة فيلم “بلوغ” الذي تشترك فيه خمس مخرجات لكل واحدة منهن أفكارها وثقافتها الخاصة ورؤيتها لواقع المرأة. لكنهن يشتركن في تحررهن من قيود مفروضة على النساء في مجتمعهن، وهو تحرر ينعكس على مشاريعهن السينمائية.
ليس هناك وقت محدد لنصل إلى مرحلة البلوغ وما يترتب عليها من تغيرات جذرية، فكل فرد قد يعيش ليلته المظلمة في ميقاتها الدقيق، ليعلن بعدها عن كسر القيود المكبلة لعقله، وقد يتكرر بلوغه لحظة التغيير، ويعيشها على فترات متباعدة في حياته، فالحياة في جوهرها هي رحلة وعي ونضوج.
هذا الأمر لا ينطبق على الأفراد فحسب وإنما ينسحب أيضا على المجتمعات التي لا تسير منعزلة عن بعضها البعض بل تجد نفسها مهما انعزلت مجبرة على بلوغ مرحلة التغيير.
من هذه الفكرة جاء فيلم “بلوغ” الذي يجمع خمسة أفلام قصيرة لخمس مخرجات سعوديات نقلن بكاميراتهن خمس قصص مختلفة لنساء بلغن درجة الوعي والتمرد على ضوابط المجتمع، وهي قصص تعكس عمق معاناة النساء اللواتي يعشن داخل مجتمعات منغلقة وتحت وطأة المعاناة والقلق والخوف.
بوكس
وتدور مواضيع الأفلام الخمسة في فلك الوعي والجرأة في اتخاذ قرار التمرد على القواعد العائلية والاجتماعية، فكلهن نساء قررن الثورة وعيش الحياة التي تعجبهن، وبلوغ الهدف الذي رسمنه في لحظة قوة.
يبدأ “بلوغ” بفيلم “كريمة سمية”، وهو من تأليف وإخراج نور الأمير، ويُعتبر من أقصر أفلام المجموعة. ويدور موضوع الفيلم بالكامل حول العروس سمية التي قررت الهرب ليلة زفافها، بينما لا نراها نهائيا، بل نرى والدتها التي ترقص فرحة متزينة وهي تستقبل الضيوف، وتصدم كل مرة بالعروس وهي ترفض فتح باب غرفتها والنزول، إلى أن تكتشف فرارها وتحاول الاستنجاد بابنها للبحث عن أخته، تفشل كل محاولاته، ولا نرى أثر العروس في نهاية الفيلم سوى طرحة عرسها مُعلقة، ونافذة مفتوحة تتطاير ستارتها، وإعلان واضح عن تمرد الفتاة ضد عائلتها.
صحيح أن فكرة هروب العروس “مستهلكة” كثيرا في السينما العربية، لكنها في هذا الفيلم جاءت بطرح مختزل وبسيط، وبسيناريو مباشر وواضح، يجعل المشاهد يضطرب لاضطراب الأم. ومما زاد الفيلم حدة أنه قصير جدا إلى درجة أن المشاهد قد لا يستوعب ما يحدث، ليجد نفسه بسرعة أمام مشهد النهاية، وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى من يبلغ فجأة درجة من القوة والجرأة ويقرر الهرب من الأمر الواقع، فيتخذ قرارا مفاجئا للجميع.
ويأتي الفيلم الثاني “الصباح” الذي كتبته وأخرجته سارة مسفر لينقل إلى المشاهد صورة عن عائلة سعودية فقيرة، تضطر فيها المرأة إلى إعالة ابنتيها، مع غياب الأب، إلى حين تقرر البنت التمرد على والدتها، حيث تبلغ درجة من رفض العيش داخل المنزل بضوابط وضعتها الأم تمنعها حتى من تربية الأرنب “أسد” وتجبرها على العمل لمساعدة والدتها على تحضير لوازم نسائية تبيعها في محل تصفيف الشعر النسائي الذي تعمل فيه.
جاء الفيلم شديد الواقعية خاصة على مستوى الصورة والديكور والأداء التمثيلي، حيث تجسد الأم وبناتها صورا شديدة القبح والعنف والاضطراب النفسي، وهي صورة غريبة عن السينما السعودية التي لم تعهد تقديم نماذج منها، خاصة وأن الفيلم يصور البطلة في أوضاع غير مألوفة ومنها المشهد داخل الحمام، وملابسها الشفافة وحديثها بوضوح عن أجزاء من جسد الأنثى.
ويسجننا الفيلم الثالث “حتى نرى النور”، الذي كتبته وأخرجته فاطمة البنوي، مع بطلته داخل سيارة احتجزت في مأوى للسيارات، ولم تستطع صاحبتها مغادرته لتقل ابنها في يومه الدراسي الأول، وتحملنا لقطات الفيلم الواقعية نحو معاناة المرأة مع مسألة القيادة، معاناة عاشتها المرأة السعودية طوال عقود، وهي حتى وإن استنجدت بأي رجل كي يساعدها على إيجاد حل، لم تلق آذانا صاغية بل تجاهلا ولا مبالاة، إلا أنها بدعم وإرشاد ابنها الصغير استطاعت أن تغادر المأوى وتقود سيارتها بكل حرية، في إشارة إلى قيادة المرأة للسيارة كفعل ثوري على الحياة في السعودية.
ويصور الفيلم العلاقة بين الأم وابنها على أنها علاقة غير تقليدية، بل تقوم على الحوار والمشاركة، والحوار البسيط مع الابن هو من سيعلم المرأة درسا لا ينسى، فحين قال لها “تحركي حتى نرى النور” هدأت وتعلمت أن تحركها هو من سيخرجها إلى النور، والتحرك الهادئ هو بالفعل من أخرج المرأة السعودية من الظلام إلى النور.
ويأتي الفيلم الرابع “المرخ الأخير”، وهو من تأليف منال العويبيل وإخراج هند الفهاد، ليقيم مقارنة بين العلم والموروث الشعبي أو تحديدا الطب الشعبي، حيث يصور قصة أم إبراهيم المرأة المسنة المداوية بالطب الشعبي والأعشاب، والصيدلانية مها الحاصلة على الماجستير في طب الأعشاب، والتي تضطر بضغط من زوجها إلى التداوي عند أم إبراهيم رغبة في الإنجاب، إلى أن تصاب المعالجة بالزهايمر وتنسى كل شيء حولها ما عدا قدرتها على المداواة.
وتقول الفهاد في تقديمها للفيلم “كل مشاهد سيرى الحكاية وفقا لمنظوره وأفكاره، لكنني أردت الاشتغال على العلاقة الإنسانية دون إظهار شخص منتصر على حساب الآخر، والترجمة التي وضعناها لعنوان الفيلم باللغة الإنجليزية هي ‘انفرغوتابل هاند’ (الأيادي التي لا تنسى)، واليد في الفيلم كانت هي أداة البطلة أم إبراهيم في التواصل مع مرضاها، وهي الأداة التي نشطت لها ذاكرتها جزئيا بعد إصابتها بالزهايمر”.
ويبدو هذا الفيلم أكثر الأفلام تماسكا ضمن الأفلام الخمسة، بسيناريو محكم وبأداء تمثيلي جيد، لكنه جاء منحازا إلى العلم على حساب الموروث ولم يقدم إلى المشاهد شرحا لعالم المداواة بالأعشاب على الطريقة التقليدية، بل اكتفى بتصوير الصراع بين البطلتين ومحاولاتهما الفاشلة للتقارب والتواصل.
وغير بعيد عن قصص النساء وتمردهن ضد الموروث والمجتمع، يأتي الفيلم الخامس والأخير تحت عنوان “مجالسة الكون”، وهو من كتابة نورة المولد وإخراج جواهر العامري، ليصور قصة فتاة يشجعها حوار ساخر مع خالتها المتحررة على التمرد على أسرتها، فبمجرد إعلانها عن “بلوغها” تجد نفسها أمام مصيرين لا ثالث لهما، إما تزويجها قاصرا وإرغامها على ارتداء النقاب أو اختيارها مواصلة الحياة كما تريد هي، لينتهي الفيلم بوقوف الفتاة أمام المرآة لتعلن رفضها أن تعيش مصيرا مشابها لبنات جنسها.
ويأتي هذا الفيلم بحوار قد يبدو مزعجا للبعض، تطغى عليه السخرية والاتهام المباشر للعائلة بالسيطرة والتحكم في مستقبل الفتيات بمجرد بلوغهن، وهو حوار يبدو ظلاميا ينظر إلى المرأة على أنها إما عدوة للمرأة أو هي مشجعة لها على التمرد منذ الصغر، ما يجعل الشخصيتين (الخالة والأم الحاضرة – الغائبة) تبدوان افتراضيتيْن وغير واقعيتيْن.
وكل الأفلام الخمسة، رغم تباينها على مستوى الجودة في صياغة السيناريو والتصوير، أظهرت مواهب متقاربة ومتشابهة؛ فكل المخرجات رغم اختلاف سيناريوهات أفلامهن ومواضيعها، اخترن العمل بطاقم نسائي ينتصر لقضايا المرأة، وكادرات تصوير متشابهة، أغلبيتها تعتمد على اللقطات القريبة جدا، وتركز على الحركات الجسدية وملامح الوجه وانفعالاته، وهي في أحيان أخرى تقوم بتتبع المرأة، بطلة الفيلم، لترصد اضطرابها وبلوغها مرحلة الثورة ضد كل أمر مفروض عليها، فرضه المجتمع والعادات والتقاليد.