معرض الفنانة اللبنانية ليلى داغر يجمع الفصول الأربعة في لوحة واحدة
لوحات تُوازن بين صخب المدينة وسكون الطبيعة
النشرة الدولية –
العرب – ميموزا العراوي –
هربت الفنانة اللبنانية ليلى داغر من صخب المدينة نحو هدوء الطبيعة وألوانها المليئة بالحياة، موظفة أسلوبها وخبرتها المتراكمة في أعمالها السابقة لتصور هروبها من الواقع المتأزم نحو الروح الساكنة والمكتفية بعالمها الداخلي.
كثيرا ما قيل ولا يزال يقال إنه في زمن تغرق فيه بيروت في مستنقع الانتظار الذي دام طويلا بسبب الأزمات المتتالية، انتقل الوهج التشكيلي الفني إلى أماكن أخرى من الخليج العربي. غير أن متابع الحركة التشكيلية في لبنان يدرك تماما أن في هذا الكلام الكثير من المغالطة.
فقد شهدت بيروت معارض فنية تشكيلية وتجهيزية وغيرها من الفنون البصرية التي منحت عاصمة لبنان تألقا بارزا حتى في عزّ أيام الصيف المعروف بقلة العروض التشكيلية، وهو أمر لم تعهده المدينة قبل حلول الأزمات؛ إذ كانت فترة الصيف فترة سبات فني في انتظار بداية فصل الخريف، زمن انطلاق حركة العرض الفني.
كل ما في الأمر أن الإعلان عن تلك المناسبات الفنية خفّت قوته بعض الشيء بسبب الهموم اليومية المتراكمة على كاهل المواطنين، غير أن النشاط الفني استمر أغلب الظن لأن بيروت لا تستطيع أن تكون غير ذاتها، أي لا يمكن أن تحيد عن كونها حقلا خصبا للتجارب الفنية المختلفة.
اليوم، ومن بين كل الصالات الفنية والفضاءات الرحبة غير المتخصصة تحديدا بالعرض الفني كالمقاهي والشوارع الضيقة التي تظللها الأشجار اللبنانية الناجية من مقولة “سبات الحركة الفنية البيروتية”، تتحرك صالة “آرت أو 56 ستريت” بوتيرة لافتة عبر مجموعة من المعارض الفنية المتتالية والمختلفة في الأسلوب وفي المضمون على حد السواء. ومن ضمن هذا النشاط يجيء معرض الفنانة التشكيلية اللبنانية ليلى داغر.
تقدم التشكيلية ليلى داغر منذ الثامن عشر من نوفمبر الحالي حتى العاشر من ديسمبر المقبل معرضا فنيا تحت عنوان “هروب”. يضم المعرض 25 لوحة من القياس الكبير، و16 لوحة صغيرة الحجم، إلى جانب 17 مجسما من المجسمات الصغيرة التي تدور حول موضوع واحد وهو “الهروب”.
وهذا الهروب الذي أرادت الفنانة اللبنانية أن تعبّر عنه هو هروب من الواقع المتأزم نحو سكون لم ترسمه الفنانة بألوان هادئة، وإنما بألوان معظمها حارة تحاكي منطق الدفء الروحي والهناء في كنف الذات بعيدا عن شرور العالم الخارجي المتمثل في الأزمات التي يعيشها لبنان، ولكن أيضا الخاصة بالعالم قاطبة.
أول ما يلفت نظر زائر معرضها هو التحول الواضح في بنية السرد الفني إذا ما قورن بما قدمته الفنانة سابقا في معارض فردية أو ضمن مشاركات في معارض جماعية مثل “صالون الخريف” الحدث الفني السنوي في بيروت كما في باريس.
ويجب أن نذكر هنا أنه لا علاقة لتبدّل الأسلوب الفني المعتمد في تنفيذ اللوحات باختلاف المواضيع التي تناولتها الفنانة. ومن المعروف أن أغلب أعمالها السابقة هي تظهير لموقف الفنانة المعادي والرافض للمدّ العمراني المعاصر غير المراعي للتنظيم المدني والفارض سلطته على حساب الأبنية التراثية.
اليوم، أسلوب الفنانة ليلى داغر مختلف؛ فهو أسلوب ولد من رحم الأعمال السابقة ولكن بهيئة جديدة، سواء كان ذلك من ناحية الألوان المستخدمة أو من ناحية البنيان التشكيلي وحدّة الخطوط المُتقابلة مع “ميوعة” خطوط أخرى، إذا صحّ التعبير.
انفضّ اللون البنفسجي بدرجاته الخانقة عن لوحات الفنانة التشكيلية كي يفسح المجال للخضرة ولألوان الأزهار المُفصحة عن تألق جديد وعن لون بنفسجي جديد تخلى عن تكدّره.
وشهدنا في لوحات الفنانة ليلى داغر الحالية تباينا عن أعمالها السابقة حتى في روحية التنفيذ الفني. ففي حين كان هناك ما يشبه تقابلا “على مضض” ما بين الشفافية والغلاظة حيث بدت المباني التراثية وغير التراثية في لوحاتها السابقة رثة ويكاد بعضها يكون شفافا لا يفضي إلا ّإلى الفراغ وهو ينقشع من خلف غمام لوني غليظ طغى عليه في أحيان كثيرة اللون البنفسجي الداكن والمنكمش على ذاته، حضر في لوحاتها الحالية توازن قوي.
يأتي هذا التوازن تشكيليّا بالدرجة الأولى؛ إذ تبدو اللوحات مشغولة بمادة واحدة وهي الأكريليك بقوة صفاته “الأصلية “، أي الكثافة المُطبقة التي لا مسام فيها (وإن كان من الممكن أن تخفف كثافته بالماء مثلا).
لا مكان لأجواء الألوان المائية في لوحاتها الجديدة ولا لميوعة إثاراتها؛ فقط تماسك وانسجام بين الداخل والخارج على الرغم من حضور الانفصال الشكليّ بين الاثنين.
ربما “الهروب” الذي أرادت الفنانة التعبير عنه يخلع عن ذاته أيّ صفة سلبية. فهو الخضرة والصفاء والتماسك اللوني بين الشخوص القابعة في ما يشبه مكعبات ومربعات تحيل إلى فكرة الانعزال دون أن تكونه حقيقة. فثمة تواصل مع الخارج، أي خارج المكعب الشفاف، لم يكن سيحل بهذا الانسجام لو لم تكن الشخصية المرسومة داخل المكعبات، أو أمام النوافذ ذات المنحى التجريدي، في سلام مع ذاتها ومع تيقّنها من أن العالم الخارجي لن يكون طويلا رازحا تحت أثقال الخيبات والأزمات.
ما تقدمه الفنانة ليلى داغر اليوم هو هروب، ولكنه غير شديد اللهجة؛ هروب وقتيّ نحو الطبيعة البكر التي لا مظاهر مدنية فيها، هروب لن يطول ولربما أرادت الفنانة إطالته. لوحاتها تهيئ للتوازن بين صخب المدينة وسكون الطبيعة الزاخرة بوفرة الألوان.
وفي هذا العالم الضاج بالطبيعة وبقدرتها على تنقية النفس من أحزانها ومخاوفها تبرز شخوص الفنانة، وإن كانت في هيئة نسوة، أناسا بالمعنى المطلق؛ رجالا ونساء، صغارا وراشدين في احتفالية العودة إلى معنى الفرح الأصلي.
يُذكر أن الفنانة ليلى داغر من مواليد مدينة بيروت، وهي خريجة جامعة “ألبا” اللبنانية وحاصلة على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة من الجامعة ذاتها. لها مشاركات عديدة في معارض جماعية كما أقامت معارض فردية في مناطق وبلدان عديدة إضافة إلى لبنان، ومنها اليابان وباريس.