كيف غيَّرت ترجمة «الكتاب المقدس» وجه الأدب العربي الحديث؟
النشرة الدولية –
الشرق الأوسط – سوسن الأبطح –
ما تأثير ترجمة الكتاب المقدس لدى المسيحيين إلى اللغة العربية، على الكتابات الأدبية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والقرن العشرين؟ إلى أي مدى تأثر جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وأنسي الحاج وآخرون، بهذه الترجمات؟ وما المسار الذي اتخذته قبل أن تخرج بالحُلَّة التي نعرفها؟ وما خلفية هذه الترجمات؟ وهل كان يمكن لها أن تأخذ صيغاً أخرى مختلفة؟
بعض التأثيرات التوراتية في الشعر الحديث هي جُلّ ما نتنبه إليه في الغالب، لكنَّ كتاب «الترجمات العربية للكتاب المقدس وأثرها في عصر النهضة» للدكتور أمين ألبرت الريحاني، الصادر منذ أيام عن «دار نلسن»، يحاول أن يحيط بالموضوع من مختلف جوانبه. فهو يتناول حركة الترجمة العربيّة للعهدين القديم والجديد بشقَّيها البروتستانتي والكاثوليكي، وأثرها في الفكر والأدب العربي الحديثين.
نعرف أن بطرس البستاني هو من راجع اللُّغة العربيّة للترجمة البروتستانتيّة، لكن لا يقال كثيراً إن البستاني كان يستشير صديقه وزميله الشيخ ناصيف اليازجي في مراجعة تلك الترجمة وتراكيبها ومصطلحاتها ومفرداتها كي تأتي على المستوى المطلوب. ثم إن إبراهيم اليازجي راجع بعد ذلك الترجمة العربيّة للنص الكاثوليكيّ. ما يعني أن عائلة اليازجي، مع الأب الشيخ ناصيف والابن الشيخ إبراهيم، هما من أشرفا على أهم ترجمتين عربيتين عرفتهما العربية في القرن التاسع عشر، وهما البروتستانتيّة ومن ثم الكاثوليكيّة. وحين نذكر البستاني واليازجيين، فإنما نتحدث عن ثلاثة من كبار لغويي زمنهم، الشيخ ناصيف صاحب لغة كلاسيكية، يملك ناصية الفصاحة والبيان، تشبه لغته كبار العباسيين من الشعراء والأدباء. البستاني صاحب دائرة المعارف الموسوعيّة، وقاموس «محيط المحيط» من جهة، ومن جهة أخرى صحافي مواكب للتطوّر اللغوي الحديث. أما الشيخ إبراهيم اليازجي فتتلمذ على هذين القطبين اللّغويين: اللّغوي الشيخ ناصيف، والقطبِ الأدبي المعلم البستاني الموسوعي المعرفة. فلا غرابة أن يصبحَ فقيهَ عصره وبلاغيَّ زمانه.
الحيوية اللُّغويّة الناشطة في القرن التاسع عشر بأركانها، كانت من محركات حركة الترجمة بكل فروعها، وترجمة الكتاب المقدّس، ومن ثم ولادة النصوص الأدبية لكبار أدباء النهضة التي وصلت إلى المستوى الذي نعرفه، وبخاصّة الأدب المهجري في النصف الأوّل من القرن الماضي، والحركة الشعرية الحديثة التي انطلقت في لبنان والعالم العربي مع خمسينات وستينات القرن العشرين. وثمة تأثيرات تجاوزت الأدب إلى الكتابات الفلسفية والفكرية.
يعود الكتاب للبحث عن ترجمات قديمة للكتاب المقدس، تعود إلى ما قبل القرن السادس عشر، حيث يعثر على أربع ترجمات، لا نعرف عنها سوى معلومات ضئيلة. واحدة تعود إلى العصر العباسي أوردها ابنُ عبدِ ربِّهِ في كتاب العِقْدِ الفريد، وأخرى إلى زمن المأمون على يدِ أحمد بن عبدِ الله بن سلّام. ونُسخة ثالثة كانت موجودة في طرابلس، لبنان، مأخوذة عن نُسخة دمشق عام 1238، والتي بدورها نُسِخَت عن نسخة أنطاكية عام 1021، إضافةً إلى ما عُرفت بطبعة «تِتراغلوت». وكلها ترجمات مجتزأة، لا نعرف إن كان ما وصلنا هو كامل ما تمت ترجمته في تلك الفترات أم هي أجزاء من كلٍّ ضاع بمرور الوقت. لكنَّ الملاحظ أنها في غالبيتها ترجمات لنصوص من العهد القديم. ويضيف المؤلف معلقاً: «ما نفترضه أن الكثير من تلك الترجمات القديمة لم تصل إلينا، لأسباب مختلفة كالحروب وإتلاف المكتبات وقلّة الاهتمام بالكتاب المقدّس لأسباب دينيّة وثقافيّة واجتماعية مختلفة».
ملاحظتان يشير إليهما الكاتب: «الأولى أن الترجمات التي حصلت لمختارات من العهد القديم، هي أضعاف الترجمات التي تمّت لمختارات من العهد الجديد. والملاحظة الثانية أن الترجمات التي وصلت إلينا، حرصت كل الحرص على أن تأتي بلغة عربيّة بليغة، لا تشوبها شائبة».
وسبب التركيز على العهد القديم في رأيه هو «أن المسلمين اهتموا بأقوال المسيح، كالموعظة على الجبل، أكثر من اهتمامهم بسيرته. فالمسيح عندهم صاحب رسالة قبل أن يكون صاحب لاهوت وناسوت، وقيامة من الموت». لذلك لم يعنوا بالمعتقدات المسيحية بقدر ما أرادوا جلاء وجه المسيح الرسولي، والإنساني، والروحي وربما وجهه الفلسفي.
الترجمات العربيّة الحديثة
أما الترجمات العربيّة الحديثة، التي وُلدت منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر للعهدين القديم والجديد، فهي متعدّدة، وتمت بدوافع لاهوتيّة بعضها اجتماعي وثقافي، أحصى منها الكاتب تسع ترجمات عرضها بالتفصيل، مع الإحاطة بمعظم خصائصها، وهي: بوليغلوت إسطنبول، وبوليغلوت باريس، وبوليغلوت لندن، وبروباغندا روما، ودباسية حلب، وشدياقية بيروت، وبروتستانتيّة بيروت، ودومنيكانيّة الموصل، وكاثوليكية بيروت.
جميعها ترجمات كاملة غير مجتزأة، تمت بجهد جماعي مدعوم من هيئة أو مؤسسة رهبانيّة، واشترك في مراجعتِها أكثر من كاتب مشهود له. ومع ذلك اشتكت هذه الترجمات من لبس في بعض التراكيب، وغموض في بعض المصطلحات. وكان لا بد من انتظار القرن التاسع عشر لتأتي لغة الترجمة مواكبة للعصر.
فحتى القرن التاسع عشر، بدا التطور اللغوي بطيئاً. كان لا بد من انتظار وقت طويل كي نرى ترجمة، تتوفر لها ليس فقط لغة صحيحة نحوياً، وإنما أيضاً لغة عصرية مواكبة لزمنها.
المقارنة اللغوية بين الترجمتين البروتستانتية والكاثوليكية تصل إلى خلاصة مفادها أن الترجمة البروتستانتيّة هدفَتْ إلى تبسيط اللغة بحيث يفهمها القارئ المتعلّم كما يفهمها العامّة. لذلك أتت عباراتها سليمة، صحيحة، قريبة من الناس، مبسّطة لا تعقيد فيها ولا غموض.
انتقلت عدوى التأثر بالكتاب المقدس، من النهضويين في بيروت، إلى كبار شعراء العربيّة الحديثة، أمثال أبي القاسم الشابّي، وبدر شاكر السيّاب، وسواهما. يقول المؤلف: «ولَئِنْ بدأت الشرارة الأولى مع شبلي الشمَيِّل وفرح أنطون فهي لن تنتهي مع يوسف الخال وبدر شاكر السيّاب. فهذه المسألة تُشَكِّل محوراً رئيسياً من المحاور الفكرية والفلسفيّة في الأدب العربي الحديث. وأغلب الظن أن تكاثر الدراسات حول هذا الموضوع سيُوَلِّد مزيداً من الدراسات حتى تتكامل الصورة وتُعالَج من مُختلف جوانبها».
قد يستغرب البعض ما يذكره الكتاب أن مناظرة العلمانية بين فرح أنطون وشبلي الشميل كانت تحت تأثير هذه الترجمات، خصوصاً الترجمتين الأساسيتين. فهو يرى أن النقد الديني الذي ظهر في تلك الفترة كان تحت وقع قراءة الكتاب المقدس بالعربية: «هاتان الترجمتان كانتا أبرز هديّة تُقدَّمُ، عن قصد أو غير قصد، إلى التحرر الفكري العربي في مطلع القرن العشرين، والتحرّر الفكري العربي كان أبرز هديّة تُقدَّمُ، عن قصد أو غير قصد، إلى الحداثة العربية بمستوياتها الأدبيّة والفلسفيّة والسياسية».
يعتقد الكاتب أن عمه أمين الريحاني الذي يحمل اسمه ويدير إرثه ومتحفه في مسقط رأسه في الفريكة كان من أكثر الكُتّاب جرأة في الإفصاح عن تأثره بالفكر الديني، سلباً أو إيجاباً، من خلال الترجمة العربية للكتاب المقدّس. ويقول إن مكتبته في الفُرَيْكَة «تضم نُسختين من الترجمة العربيّة البروتستانتيّة للكتاب المقدّس، الأولى تعود إلى الطبعة الثامنة في مطبعة الأميركان، بيروت، سنة 1896، والثانية تعود إلى المطبعة نفسها، بيروت، 1909؛ ما يعني أن قراءاتِه العربيّة للعهدين القديم والجديد تعود، على الأرجح، إلى هاتَين الطبعتين». وحسب البعض فإن كتاب الريحاني «المحالفة الثلاثيّة في المملكة الحيوانيّة» الذي تضمن نقداً مبكراً للفكر الديني بأسلوب نقدي لاذع، هو أحد هذه التجليات. فيه نقرأ: «لا تظنّوا أنّ إيماني بالروح القدس فاترٌ. كلَّا غيرَ أنّ اللهَ عزّ وجلّ أعطانا عقولاً نستنير بها ونميّز بين الحقيقة والوهم». وفي مكان آخر يقول رداً على بعض ما جاء في العهد القديم إنّ «قصّة الحوت الذي بلَعَ يونان لا أقدِرُ على بلعِها. والشمس التي وقفَت في نصف النهار هي شمس اصطناعيّة كالشمس التي تُشرِقُ على المراسح في الملاهي البشريّة». ومؤلفات أمين الريحاني مليئة باللوم على رجال الدين، وليس هنا مجال لذكر كل الاستشهادات. لكن الخلاصة «أن الرَيحاني كان لُوثريّ النزعة، كالْفِنيّ المَيل، أكثر منه كاثوليكيّ المعتقد. هو بذلك أقرب إلى صديقه أيّوب تابت، البروتستانتيّ العقيدة، الأخلاقيّ السلوك في تبوّئه لاحقاً رئاسة الجمهوريّة اللبنانبّة. والرَّيحاني بذلك قد تخطَّى سائر المهجريين وأدباء النهضة من خلال نزعته التحرريّة البارزة في معتقداته الدينيّة المسيحيّة».
ثمة إشارة في الكتاب إلى أن مكتبة جبران في بشرّي تضم نُسخة الترجمة البروتستانتيّة، المطبعة الأميركانيّة، بيروت، 1909. وهي نفس النسخة الموجودة في مكتبة الريحاني. «هل كان هذا التفضيل يعودُ إلى كونهما من أصحاب الثقافة الأنكلوسكسونيّة؟ أم هو عائد لاعتقادهما بأن الترجمة البروتستانتية هي الأكثر انفتاحاً والأكثر تحرّراً؟».
عند جبران تأثيرات الكتاب المقدس واضحة في كل كتاباته خصوصاً «عرائسِ المروج» (1906)، و«الأرواح المتمرّدة» (1908)، و«دمعة وابتسامة».
والتأثيرات ظهرت مع النصف الثاني من القرن العشرين خصوصاً في قصيدة النثر، من خلال أعمال رواد مجلة «شعر» مثل يوسف الخال، وأدونيس، وبدر شاكر السيّاب، وخليل حاوي، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، وفؤاد رَفقة، ومحمد الماغوط، وسواهم. «تأثير يتغذّى برموز ودلالات مستوحاة من المسيح ولعازر، وأيّوب… ورؤى مستوحاة من معاني نشيد الإنشاد وسِفر الجامعة والمجوس والموعظة على الجبل والعشاء الأخير والتوبة والصلب والقيامة والجلجلة والشوك والغار والقديس والقدّاس والبخور والإيمان والطلبات».
شوقي أبي شقرا دمج بعض المعاني القدسية بغريب الألفاظ، وفتح أبواب التأويل على غاربها، بما أفسح من سوريالية. ويوسف الخال برز تأثره بالكتاب المقدس جلياً في مجموعتَيه «البئر المهجورة» (1958) و«قصائد في الأربعين» (1960). وبدر شاكر السياب بدا تأثره في ديوان «أنشودة المطر» (1960) وقصيدته «المسيح بعد الصلب» لنكتشف دلالاتِ البعث.
أحَدَ عَشَرَ مترجماً لبنانيَّا، أحصاهم صاحب الكتاب من أصل 31 مترجِماً من جنسيّات مختلفة، أسهموا أو نفَّذوا مشاريع الترجمات. هؤلاء بعملهم اللغوي كانوا ينقلون مع ترجماتهم هذه، الأدب العربي من العهد القديم إلى عهد حديث ومختلف، يصعب نكران دورهم الكبير فيه.