أحافير في الحب – 25 حتى الأماكن، تحنُّ وتَئِنُّ!

النشرة الدولية –

كتب الدكتور سمير محمد ايوب

إتصلت بي مساء الأمس وهي حزينة، مثقلة بدمع الفراق ورحيل جل روحها. واسيتها وشكرت لها اتصالها، وسألتها المزيد من الصبرالجميل، على ما قد ابتلاها به ربها.

دعَّمَ اتصالها أشواقا كثيرة،  كنتُ في ثنايا التفاصيل، منذ زمنٍ بعيد أتفادى بالتّعمُّدِ، مقاربةَ أماكنَ نشأتِها ونُضجِها، مشاعرٌ شكّلَت في حياتي جُسورا وجودية، أضافت أشواقا لأشواقٍ، ما انْقضَت لا بالتّنكر ولا بالنسيان، ولا تشظّت ولا خَفَتَ دِفؤها.

تهرّبا من الادمان، كنتُ مُبكّرا قد أقنعتُ نفسيَ بتفادي ما أتصوره حنينَ الأماكن، مهما كانت جغرافيتها أو وظيفتها. ولكنَّ اتصالها بالأمس أيقظ شوقا وبعث حنينا، للكثير من الأماكن في جغرافيا الاردن، طالت غربتُنا معا عنها، كنا قد نقشنا الكثير من أشيائنا في ثناياها.

كانت لنا، هي وأنا، طقوسٌ مُتجددة في ممارسة متعة انتقاء الأماكن والأماكن، ففي أرحامها البكر، كنا لساعات عديدة، نؤسس اواصر وجودية، نستعيد عبرها، الكثير من لهو طفولتنا البريئة، وجنون مراهقتنا، ونزق شبابنا، واتزان النضج المبكر. وفيما نظن، خلّفنا فيها آثارا في الحب، باقاتٌ أشيائُها شديدة التنوع، مفعمة بجموح رصين، ووقار متفلت جريء، لم يعرف غيرنا مثل عناقيدها، ولا حتى بعضها او بعض بعضها.

لأنها تعرف ما يكفي عن عشقي للأماكن، كانت تُحذرني بجدية من اهمالها ، كانت تصر ناصحة على ان الأماكن لها ارواح تحس بها، لذا فهي تكتئب مثلنا، بل تحزن وتغضب إن أهْمِلَت أو هُجِرَت من عشاقها ومريديها بغيابٍ غير مبرر.

إثْر اتصالها بالأمس، عُدتُ اليوم إلى مكانٍ رَبداويٍّ هادئ بامتياز، كانت له عندنا مكانة خاصة، عبق الذكريات فيه مؤثِّر، كثيرا ما التقينا فيه، بعيدا عن أعينِ البصّاصين وآذان المُتطفلين وهواةِ التأويل الفج.

إرتقيتُ تضاريسه بتمهل متعمد، محاذرا صَدَّه لي. وقفت فيه بصمتٍ متأملٍ. في ظلال مهابة المكان ورهف المشاعر ورهبة السكون الهائم ، وجدته صابرا، بلا احتجاجٍ شديدٍ على طول غيابنا، وبصبرٍ أكثر أنصتَ وأصغى لصوتِ تمتماتي المُبَرِّرَة. جُلتُ بقدميَّ وعينيَّ فيه. توجهتُ بتوتّر نحو صخرة ملساء، لأكثر من عام لم نجلس عليها ملتصقين، جلستُ عليها لوحدي متوترا لدقائق، خلتُ خلالها أنني أسمع المكان يسألني عنها، فلم أجد في مجلسي الراحة التي اعتدت عليها، فسارعتُ بالوقوف الحائر.

مددتُ يدي إلى بقايا حصى في موقدٍ كنا نعدُّ فيه المُحَبَّبَ من قهوتنا، فظننت وأنا أداعبها، أنّ استقبال الحصى لأصابعي كان فاترا غير ودود. فوجَّهتُ بصري في كل اتجاه، مُشتاقا لتضاريس المنطقة وكلها عزيز علي، الجولان العربي السوري المُحتل الممتد امامي، وعلى يميني بحيرة طبرية وقرية سمخ الفلسطينية المحتلة ، ونهر الاردن المنهوب بالتجفيف الارهابي على يساري، وانثناءات أشجارالجوافة من حولي، رغم ضوء شمس الظهيرة، بدت كلها شاحبة الألوان، حزينة مكسورة الخاطر.

تأتأت شفتاي بغضبٍ حيي مُدَجّنٍ، وعيون القلب تنزف، ودمعٌ مالحٌ ساخن يَلْسَعُ شفتيّ، أدرت مفتاحَ سيارتي وأسرعت في الرحيل !!!!

 

زر الذهاب إلى الأعلى