الإعلامية اللبنانية لينا زهر الدين تبحث عن وطن

النشرة الدولية –

القدس العربي –

تتعدّد مدلولات الوطن وتختلف في متن الرواية الأولى «بحثاً عن وطن» للإعلامية والكاتبة اللبنانية لينا زهر الدين، الصادرة في بيروت عن الدار العربية للعلوم ناشرون. فالوطن الدالّ الواحد الذي يرد في العنوان بصيغة النكرة، يكتسب في المتن مدلولات معرّفة عدة، من قبيل: لقمة العيش والمستقبل، الأمل والنور والحب والراحة، الأب، الانتماء وتحقيق الأحلام، الحبيب وغيرها. وإذا كان هذا هو المبحوث عنه في المتن الروائي، فإن الباحثة هي امرأة أربعينية في مجتمع ذكوري، لا يقيم كبير وزن للمرأة، ولا يدّخر فرصة في محاصرتها بالقوانين والأعراف الجائرة، ما يجعل عملية البحث أصعب. ولعل ما يزيد الأمر صعوبة هو أن عملية البحث عن وطن تجري في ظل تحولات كبرى، تشكّل الخلفية التاريخية للأحداث الروائية، وترخي ثقلها على المجتمع والأفراد.

وحسبنا الإشارة إلى أن الأحداث تتزامن مع سلسلة من اللحظات التاريخية الحرجة، نذكر منها: الحرب الأهلية اللبنانية في الثمانينيات من القرن الماضي، حرب المخيمات، اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط/آذار 2005، حرب تموز/يوليو 2006، أحداث 7 أيار/مايو 2008، ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وانفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه، في هذا السياق، هو: هل يمكن لعملية بحث تقوم بها امرأة عزلاء في مجتمع ذكوري، في لحظات تاريخية حرجة، أن تؤتي ثمارها المرجوة؟

No photo description available.

أسئلة مطروحة

 

في روايتها الأولى، تطرح لينا زهرالدين أسئلة مطروقة، طالما طرحتها الرواية اللبنانية والعربية، من قبيل أسئلة: الحرب، الوطن، المرأة، الاستبداد، الثورة، الاستعمار وغيرها. على أن هذا لا ينتقص من قيمة الرواية، لأن المعوّل عليه ليس جدّة الأسئلة أو قِدَمَها، بل كيفية مقاربتها، وهي المطروحة في الطريق كمعاني الجاحظ، وفي هذه المقاربة تتحقق روائية الرواية أو لا تتحقق. وبنتيجة القراءة، يمكن القول إن زهر الدين عرفت من أين تؤكل كتف الرواية، رغم أنها روايتها الأولى، فنجحت في المقاربة، وحققت الروائية المطلوبة.

تفعل زهر الدين ذلك، في الشكل، من خلال أربع وخمسين وحدة سردية متعاقبة، متوسطة الطول في معظمها، بحيث يتراوح طول الوحدة الواحدة بين الصفحة ونصف الصفحة، في الحد الأدنى، وسبع عشرة صفحة في الحد الأقصى. وتندرج هذه الوحدات في مسار خطي متقطع، تتخلله فجوات زمنية بين وحدة وأخرى، تطول أو تقصر حسب مقتضى الحال، وكثيراً ما ترهص الوحدة في نهايتها بما سيأتي بعدها أو تكثّف ما سبق في جملة جامعة مانعة، ما يمنح النص انسيابيته ورشاقته وتسلسله، وهي من متعلّقات روائية الرواية.

 

امرأة نموذجية

 

في المضمون، تتمحور الأحداث حول شخصية سارة، وتدرّجها في المراحل العمرية المختلفة؛ بدءاً من نزوح أسرتها عن العاصمة عام 1985 وهي في مرحلة الطفولة، مروراً بدراستها المدرسية في مرحلة الصبا، ودراستها الجامعية في مرحلة المراهقة الثانية، وزواجها وسفرها للعمل في الإمارات في مرحلة الشباب، وصولاً إلى العودة إلى بيروت والسفر إلى فرنسا والإقامة فيها في مرحلة الكهولة. هذا المسار الزمني تكتبه زهر الدين في 54 وحدة سردية تبني فيها الشخصية المحورية بالتدريج، فتضيف إليها، في كل وحدة أو بضعة وحدات، ملمحاً معيّناً أو أكثر، حتى إذا ما انتهت من البناء، نكون إزاء: امرأة نموذجية تتحدى الظروف الصعبة، وتصنع لنفسها موطئ قدم في عالم يتنافس فيه الذكور بالمناكب والأقدام. امرأة مثالية تقدّم المبادئ على المصالح، وتضحي بمنفعتها الشخصية انتصاراً للمبدأ. امرأة ثائرة على المواضعات الاجتماعية والسياسية الظالمة، ترفض الظلم على أنواعه، وتعلن انحيازها إلى المظلوم، حتى لو كانت دون ذلك أثمان غالية. امرأة وطنية مدنية خارجة على أحكام الطائفية وتجّارها، ومستعدة لتحمّل عواقب الخروج. امرأة تقدّمية تؤمن بتغيير الحاضر بمستقبل أفضل، وتنخرط في عملية التغيير، غير أن الرياح لا تجري بما تشتهي سفينتها في نهاية المطاف.

 

وقائع روائية

 

هذه الملامح يتم تظهيرها من خلال مجموعة من الوقائع الروائية المتعاقبة في المراحل العمرية المختلفة؛ ففي الثالثة عشرة، تقوم سارة بصفع رفيقها حسين في القرية، لدى محاولته التحرش بها. وفي السابعة عشرة، تنخرط في العمل لتخفّف عن والدها أعباء المصروف، فتعطي الدروس الخصوصية، وتعمل في محل ألبسة، حتى إذا ما حاول صاحب المحل التحرّش بها تغادر إلى غير رجعة. وفي مرحلة لاحقة، تقنع والدها بالموافقة على سفرها إلى الإمارات قبولاً لعرض عمل مهم من شركة إنتاج إعلامي، وتبدي كفاءة عالية في عملها تجعلها موضع تكريم إدارة الشركة وتقديرها، وتؤمن فرص العمل لأخيها وبعض صديقاتها، وحين يحاول المدير الجديد للشركة التحرش بها، تقوم بلكمه على وجهه، وتقدّم استقالتها من العمل، وتعود إلى بيروت مقدّمةً كرامتها على المنصب.

 

وإذا كانت بطلة الرواية لم تجد ما تبحث عنه في وطنها الأم، لاعتبارات كثيرة ذاتية وموضوعية، ووجدت أن عليها الاختيار بين خلاص جماعي غير متاح وخلاص فردي متاح، فإن ما تعرّضت له من خيبات، على المستويين الخاص والعام، يدفعها إلى اختيار المتاح، فتغادر إلى فرنسا لتولد من جديد مع ولديها في «بلاد النور والحرية» على حد العبارة الأخيرة في الرواية.

 

وفي بيروت، تبدي اهتماماً كبيراً بأمها المصابة بسرطان الثدي، ما يثير غيرة الأم والشقيقات وحفيظتهن، وتشدّها علاقة قوية إلى والدها العسكري المتقاعد ويفخر أحدهما بالآخر، وتمد يد المساعدة لبعض الجمعيات الخيرية. وفي الخارج، يشتد حنينها إلى لبنان، وتتخذ قرار العودة إليه، رغم حالة عدم الاستقرار فيه، مضحيةً برفاهيتها والفرص المتاحة لها. وحين يندلع الحراك الشعبي في 17 أكتوبر 2019، تنخرط فيه بكل قوة، فتتظاهر مع المتظاهرين، وتشارك في جلسات الحوار، وتنظم حملات الدعم الإنسانية، وتحلم مع الآلاف بالتغيير، وتدفع الأثمان بالاستقالة من المؤسسة التي تعمل فيها لانحيازها إلى أحزاب المنظومة الحاكمة، وبالتعرض لسيل من التنمّر والشتائم والاتهامات الباطلة، لكن حين يصل الأمر إلى حد الاعتداء المباشر عليها، واحتمال تعرّض ولديها للاعتداء، تتخذ قرار الرحيل عن وطن لم تعثر عليه، وتغادر مع ولديها إلى فرنسا. هذه الوقائع وغيرها تتمخّض عن شخصية امرأة قوية، صلبة، نموذجية، مثالية، ثائرة، على حد الملامح التي سلفت الإشارة إليها أعلاه.

خصوم ومؤيدون

 

في رحلة البحث عن الوطن التي تستبطن بحثاً عن الذات، في الوقت نفسه، تخوض سارة الكثير من المعارك، ويكون عليها أن تتموضع بين كثير من الخصوم والمتربصين بها شراًّ وقليل من المؤيدين والداعمين. وعلى كثرة أولئك وقلة هؤلاء، تنتصر في معظم المعارك بفضل ثقتها بنفسها وإيمانها بعدالة قضيتها وقوة إرادتها غير أنّها تخسر المعركة الكبرى، فلا تجد الوطن الذي تبحث عنه في لبنان، وتغادر إلى الخارج لعلها تعثر عليه هناك.

على مستوى الخصوم، يكون على سارة المرأة الباحثة عن الوطن والذات في مجتمع أبوي، أن تواجه ذكورية الأم وغيرة الشقيقات ورعونة الأخ، ولا مبالاة الزوج وذكوريته وغدره وقلة وفائه ومحاولته ابتزازها في ولديها، وحقد أعداء نجاحها في العمل وتحرّش المدير الجديد بها، وتنمر أعداء الثورة وتهديداتهم واتهاماتهم، وقمع أحزاب السلطة وزبانيتهم للثوار، وهول انفجار المرفأ الكارثي وسواها من التداعيات، وعلى مستوى المؤيدين والداعمين لها، تجد في أبيها السند المتفهّم والداعم لها، وفي مريم وسناء عيسى الصديقتين المخلصتين، وفي رجل الأعمال إبراهيم جابر الأخ والحبيب، وفي زميل العمل مازن الصديق وقت الضيق، وفي ولديها العمر كلّه.

وإذا كانت بطلة الرواية لم تجد ما تبحث عنه في وطنها الأم، لاعتبارات كثيرة ذاتية وموضوعية، ووجدت أن عليها الاختيار بين خلاص جماعي غير متاح وخلاص فردي متاح، فإن ما تعرّضت له من خيبات، على المستويين الخاص والعام، يدفعها إلى اختيار المتاح، فتغادر إلى فرنسا لتولد من جديد مع ولديها في «بلاد النور والحرية» على حد العبارة الأخيرة في الرواية. وبذلك، تجد ما تبحث عنه، ويغدو الوطن، حيث نتنعم بالنور دائماً وندرك نعمة الحرية، لا حيث تسقط رؤوسنا ونبصر النور للمرة الأولى. هل هي دعوة غير مباشرة إلى الهجرة؟ ربما كان الأمر كذلك، لكن ماذا تركت لنا المنظومة الحاكمة كي لا نفعل؟

وبعد، ورغم أنني لست من هواة التلصص على الروائي من خلال شخوصه الروائية، فإني أتساءل عن ماهية العلاقة بين لينا الروائية وسارة بطلة الرواية، وأسارع إلى الظن أن بينهما أكثر من نقطة تقاطع، في مسقط الرأس والنشأة والعمل والسفر وعدد الأولاد والأفكار وغيرها، لكنني أستطيع الجزم أن قصة سارة هي قصة المرأة العربية في المجتمع الأبوي، وإن اختلفت الوقائع والتفاصيل، وأستطيع الجزم أن «بحثاً عن وطن» بداية روائية واثقة وجميلة تخلو من إرباك البدايات وتعثّر الخطى، وأن لينا زهر الدين كاتبة روائية بامتياز.

 

زر الذهاب إلى الأعلى