تهمير على خط واشنطن تل أبيب
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
تستطيع أن تضع جانباً ما استجد في الحرب بأوكرانيا خلال اليومين الماضيين من تصعيد اخترقت فيه أوكرانيا الحدود القتالية للروس، وما قد يتداعى من ذلك في شتاء أوروبي مرشح لأن تتضاعف أعداد وفيات فقرائه بسبب نقص وقود التدفئة.
يمكن وضع ذلك المشهد جانبا بشكل مؤقت، لأن في الجوار، بالشرق الأوسط، قصة أخرى تتواصل بسرعة، ولها حيثيات تستحق المتابعة، على الأقل لتقييم إن كان الصراخ المتسرب منها جدياً أو من نوع تهمير القطط المنزلية.
هي قصة العلاقات الأمريكية الإسرائيلية التي دخلت خلال الأسبوعين الماضيين نفقاً قارس البرودة، تختلط فيه التحذيرات والمطالب المتصلة بمشروع الدولة الفلسطينية، مع التوجّع الإسرائيلي من سرعة وقوة الأصوات الأمريكية المعادية للصهيونية وللسامية.
جدّية هذه القصة المتحركة، مردّها باختصار، أن فوز الائتلاف اليميني الشوفيني في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، كشف عن دمامل وأورام كان مسكوتاً عنها لأسباب عديدة، وفي مقدمتها أن الرئيس الأمريكي جو بايدن لا تحتمل صحته ولا برنامج إدارته في الشرق الأوسط، عبور مطبات من نوع الاصطدام بالحليف إسرائيل فيما هو منشغل باحتواء الاختراقات الإيرانية لأمن دول الجوار في الشرق الأوسط.
لكن التشكيلة الحكومية في إسرائيل، التي لم تستكمل رسمياً بعد، فرضت على رئيسها بنيامين نتنياهو شركاء ممثلين للصهيونية الدينية وللكاهانية، بما عمّم في الولايات المتحدة وقبلها في الشرق الأوسط انطباعات/ قناعات بأن الوجه الإسرائيلي تغيّر، وأن التغيير يحمل معه سياسات صدامية منظورة، على صعيد تطوير المشروع الاستيطاني في الضفة، والمقدسات في القدس، وعلى مستقبل السلطة الفلسطينية المتداعية أساساً..
العلاقات الأمريكية الإسرائيلية دخلت خلال الأسبوعين الماضيين نفقاً قارس البرودة، تختلط فيه التحذيرات والمطالب المتصلة بمشروع الدولة الفلسطينية، مع التوجّع الإسرائيلي من سرعة وقوة الأصوات الأمريكية المعادية للصهيونية وللسامية
وبحصيلة إجمالية مفتوحة على كل الاحتمالات التي تختبر الحرفة السياسية لبنيامين نتنياهو: هل ينهي حياته السياسية بحرب جديدة مختلفة هذه المرة، أم أنه سيهرب إلى حل للقضية الفلسطينية يأخذ شكل العملية القيصرية من دون بنج؟
في تتابعِ ارتدادات انتقال إسرائيل إلى سلطة اليمين الإسرائيلي الأعشى، تفاصيلُ صغيرة متباعدة، في الموقف الأمريكي الرسمي، وفي الفضاء الثقافي والإعلامي، تعاقبت خلال الأسبوعين الماضيين على نحو لا يمكن أن يكون عبثاً أو مصادفة مقطوعة الجذور والفروع.
فقد تراخت أو انفكّت (جزئياً) الحلقة شبه الخفية التي طالما تحكّمت بالإعلام الأمريكي وتابوهاته التي لها أصول تاريخية موثقة في العقل والمزاج الغربي.
لم يعد بمقدور هذه الحلقة الخفيّة كتم الأصوات (بما فيها اليهودية)، التي تقول: “هذه ليست إسرائيل التي نعرفها، أو ما عدنا ملزمين بدعم إسرائيل بعد أن أضحت شوفينية”.
كانت لحظة تاريخية لزجة أن يستقبل رئيس جمهورية سابق (دونالد ترامب) في دارته على العشاء مساء 22 نوفمبر، مغني الراب المعروف سابقاً باسم كاني ويست وبتصريحاته المعادية للسامية، يرافقه شخص آخر (نيك فوينتيس) معروف بأنه أقوى الأصوات التي تُنكر الهولوكوست.
كان اجتماعا فيه من خفة الحديث عن الانتخابات القادمة، بقدر ما فيه من تقنين عالي الصوت لمناهضي التحكم الصهيوني بالإعلام والثقافة الأمريكية.
وعلى المستوى نفسه من الأهمية، فإن أغنى أثرياء العالم، إيلون ماسك، يقنّن الآن لتويتر (بعد أن تملّكها) لفتح الباب لأصوات لا ترهبها تُهم اللاسامية واللاصهيونية. صناعة الترفيه العالمية ها هي تخرج مبدئياً من إسارِ الترهيب الإسرائيلي أو الصهيوني بالمقاطعة، وصار لها سند في مواقف العشرات من الأصوات السياسية والإعلامية والفنية والدينية التي كسرت التابوهات، ولم يعد سهلاً كتم أصواتها وأصوات غيرها.. ثم تتابعت الشواهد والحيثيات في تأزيم العلاقة بين واشنطن وتل أبيب.
في اليوم التالي لحفلة عشاء ترامب وويست وما شكلته من انتفاضة على الاتهامات باللاسامية، أعلنت إدارة الرئيس بايدن أنها أبلغت الكونغرس بتعيين مبعوث خاص للشؤون الفلسطينية، سيكون مسؤولاً عن علاقات الولايات المتحدة مع الشعب والسلطة الفلسطينية، وهو هادي عمرو، من أصول لبنانية.
كانت لحظة تاريخية لزجة أن يستقبل رئيس جمهورية سابق (دونالد ترامب) في دارته على العشاء مساء 22 نوفمبر، مغني الراب المعروف سابقاً باسم كاني ويست وبتصريحاته المعادية للسامية، يرافقه شخص آخر (نيك فوينتيس) معروف بأنه أقوى الأصوات التي تُنكر الهولوكوست.
ورغم ما اعتبرته السلطة الفلسطينية من أن إجراء واشنطن شكلي لا أهمية له، فإن ما أعقبه أكد خطأ تقديرات رام الله، ففي التاسع والعشرين من الشهر الماضي، ظهر السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، دانيال كيرتزر، مع المفاوض السابق في الخارجية الأمريكية، آرون ديفيد ميللير، (وكلاهما من اليهود الأمريكيين الذين عملوا في مفاوضات السلام بالشرق الأوسط)، بمقال رأي موحّد في صحيفة “واشنطن بوست”، طالبا فيه إدارة بايدن بألا تقدم بعد الآن أسلحة هجومية أو مساعدة للحكومة الإسرائيلية القادمة.
وحذّرا من خطط المتشددين في الحكومة الإسرائيلية لتغيير وضع الضفة الغربية بضمّ المنطقة ج (الغور) أو بتوسيع البؤر الاستيطانية.
وكانت حركة غير مسبوقة بمواصفاتها الخاصة، أثارت في إسرائيل تحليلات وتكهنات أعمق مما قرأته وتعاملت به السلطة الفلسطينية.
نشرة كاميرا الصهيونية، وصفت ما تضمنّه مقال البوست بأنه “شاخصة مرور إلى الجحيم”. وقالت: “كان ونستون تشرشل قد وصف الدبلوماسية بأنها فن توجيه الناس إلى جهنم بوضع شواخص تدلهم على الطريق”، وهذا بالضبط ما فعله الدبلوماسيان الأمريكان السابقان، في مقالتهما التي دعت واشنطن للتخلي عن إسرائيل، بعد أن اشتطّت الأخيرة في النزق وفي معاداة المنطق والديمقراطية.
وفي اليوم التالي لمقالة البوست، قال المبعوث الخاص للقضية الفلسطينية، إن حكومة بايدن ملتزمة بإعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس، وهي المكتب الذي سيتولى المتابعة مع الفلسطينيين في القدس الشرقية.
كانت إشارة تذكير قوية بأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة ما زالت (ولو نظرياً) ملتزمة بقرارات الأمم المتحدة الخاصة بتبعية الضفة وغزة والقدس الشرقية للفلسطينيين.
وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أمام مجموعة يهودية ليبرالية، قال في اليوم التالي بوضوح إن حكومته تحذر نتنياهو وتتعهد بمعارضة الاستيطان وضم الضفة الغربية.. وجدد التزام واشنطن بحل الدولتين، لكنه فتح الباب موارباً لحل الدولة الواحدة القائمة على حقوق متساوية لليهود والفلسطينيين.
هذا التسلسل، الذي يصعب التصور أنه عفوي، في رسائل التهديد الأمريكية الموجهة لحكومة نتنياهو القادمة، كان واضحاً أنه حقق هدفه بتصنيع صدمة يبدو انها أخذت مداها في تل أبيب.
علقت صحيفة “إسرائيل ناشيونال نيوز” بعنوان رئيسي يقول: هل قصدت الولايات المتحدة أنها ستسمح لإيران بقصف إسرائيل إذا لم نلتقط نحن اليهود الرسالة ونعود للتصرف بالعقل والمنطق؟ وأضافت: يبدو أننا وصلنا مع الإدارة الأمريكية إلى مستوى جديد من التهديد والوعيد.
وختمت بالقول: دعونا نوضح هذا بلغة إنجليزية مفهومة: التهديد الأمريكي هو أن إسرائيل ليس لها الحقّ في الوجود إن هي ضمّت المنطقة ج من أراضي السلطة الفلسطينية.
وكانت الصحيفة العبرية، في ذلك، تشير إلى ما قاله بلينكن من أن إسرائيل إذا قامت بضم المنطقة “ج” فإن واشنطن لن تستخدم حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الذي يدين الخطوة وربما يفرض عقوبات أشد على الدولة اليهودية.
هذا المشهد العاصف الذي تراكمت رعودُه سريعاً على خط واشنطن – تل أبيب عقب نتائج الانتخابات الإسرائيلية، هو من سوية النقلات المفتوحة على احتمالات الأسوأ.
نتنياهو في مذكراته التي نشرها الصيف الماضي يتذكر جيداً ما كان فعله به الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما قبل ست سنوات، عندما امتنع عن استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن وسمح للأمم المتحدة بإصدار القرار 2334 الذي أجبر إسرائيل على وقف النشاط الاستيطاني، تحت تهديد إجازة عقوبات أشدّ.
أيامها كان جو بايدن نائبا للرئيس، واليوم هو الرئيس الذي ترك لوزير خارجيته أن يكرر التهديد ذاته، لكن في ظروف دولية وإقليمية أشدّ تعقيداً، وبوجود حكومة متطرفة لن تجد في واشنطن الكثير ممن سيفزعون لها.
تُرى مَن يستطيع أن يتكهن بالكيفية التي سيتصرف بها نتنياهو وهو محشور بين تهديد شركائه في الحكومة، ووعيد واشنطن التي ما عاد بإمكانها أو برغبتها إنقاذه؟
وما الخيارات أو الأبواب الأخرى التي قد يهرب منها، غير باب تسريع إطاحة السلطة الفلسطينية الآيلة للسقوط، وتصنيع فوضى محلية تشغل المنطقة ومعها واشنطن لسنوات قادمة قد تكون طويلة؟