“إمام زهدان” الذي يلهم المتظاهرين ويتحدى النظام الإيراني
رسالة مسربة نسبت إلى خامنئي توصي بتشويه صورته
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
يبدو أن صمود الإيرانيين في مسيراتهم الاحتجاجية المستمرة والمعلنة منذ 16 سبتمبر (أيلول) الماضي، استنكاراً وغضباً لوفاة الفتاة الكردية مهسا أميني، 22 سنة، بعد أن أوقفتها “شرطة الأخلاق” لمخالفتها قواعد اللباس الصارمة في إيران، قد بدأ يعطي ثماره، وذلك إثر مجاهرة الإيرانيين برفضهم القاطع واستيائهم من تدخل رجال الدين في شؤون الحياة المدنية والنيل من الحريات الفردية، بحجة تطبيق الدين، وذلك منذ عام 1979، إذ أعلن المدعي العام الإيراني، محمد جعفر منتظري، إلغاء “شرطة الأخلاق” من قبل السلطات المتخصصة، بحسب وكالة الأنباء الطلابية الإيرانية “إيسنا” الأحد الرابع من ديسمبر (كانون الأول) الحالي. وقال منتظري مساء السبت الماضي في مدينة قم، إن “شرطة الأخلاق (دوريات الإرشاد) لا علاقة لها بالقضاء وقد ألغتها الجهة التي أسستها”، وليس القضاء الإيراني. وأضاف “لا علاقة لدوريات الإرشاد بالقضاء، إنها أغلقت من المكان ذاته الذي أسست فيه، ولكن بالطبع يواصل القضاء مراقبة التصرفات السلوكية على مستوى المجتمع”. وأضاف في شأن إغلاق شرطة الأخلاق “بصفتي النائب العام للبلاد، سأقدم هذا الوعد للشعب، بأننا لن نكون متجاهلين القضايا الرئيسة، وأسباب أعمال الشغب الأخيرة”. ولفت إلى أن البرلمان والمجلس الأعلى للثورة يبحثان مسألة الحجاب وسيعلنان النتائج خلال أسبوعين. وأسست شرطة الأخلاق، واسمها بالفارسية “غاشت إرشاد”، أي دوريات الإرشاد، في عام 2007، وهي حالياً الوكالة الرئيسة المكلفة إنفاذ مدونة قواعد السلوك الإسلامية الإيرانية في الأماكن العامة. وينصب تركيز “شرطة الأخلاق” على ضمان التزام الحجاب، وهي قواعد إلزامية تتطلب من النساء تغطية شعرهن وأجسادهن ومنع استخدام مستحضرات التجميل، وكان ذلك في عهد الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد من أجل “نشر ثقافة اللباس اللائق والحجاب”. وهي تضم رجالاً يرتدون بزات خضراء ونساء يرتدين التشادور، وبدأت هذه الوحدة دورياتها الأولى في عام 2006.
“ملهم الانتفاضة الإيرانية”
واندلعت الانتفاضة الإيرانية إثر وفاة مهسا أميني، التي كما بات معلوماً هي من أصول كردية ومن المذهب السني، مما استدعى تعاطف الأقليات في إيران، حيث تضمنت لاحقاً هتافات المتظاهرين، شعارات مطالبة بحقوقهم المسلوبة، إضافة إلى هتافات ضد الظلم والحرمان والعدالة والمساواة. وكانت أحداث يوم الجمعة 30 سبتمبر الماضي، المعروف باسم “الجمعة الدامية”، في مدينة زاهدان عاصمة بلوشستان ذات الغالبية السنية، والتي تضمنت اشتباكات بين المتظاهرين والشرطة راح ضحيتها 66 شخصاً في الأقل بعد أن فتحت قوات الأمن النار على المتظاهرين، وفقاً لـ”منظمة العفو الدولية”، فيما قالت جماعات حقوقية أخرى إن عدد القتلى أعلى بكثير. جاءت الاحتجاجات يومها بعد تسريب أنباء حول اعتداء جنسي على فتاة قاصر من البلوش من قبل قائد مخفر شرطة هناك، مما شكل الشرارة التي أشعلت إقليم سيستان وبلوشستان. واستدعى ذلك تصريحات “جريئة” من قبل الشيخ عبدالحميد إسماعيل زهي، إمام السنة في زاهدان، حيث وصف أحداث زاهدان بـ”الجمعة الدامية”. ولفتت تصريحات الشيخ عبدالحميد، الزعيم الروحي للبلوش، أنظار المتظاهرين في مختلف المناطق الإيرانية ورواد شبكات التواصل والإعلام الإيراني من خارج البلاد، حيث لاقت دعواته الجريئة من منطقة البلوش تعاطفاً وتضامناً، بخاصة أن تلك المنطقة تعد ومنذ فترة طويلة واحدة من أفقر مناطق إيران.
في تقرير لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، نشر في 2 ديسمبر الحالي، بعنوان “رجل دين سني في إيران يلهم المتظاهرين ويتحدى الحكومة”، يوصف الشيخ عبدالحميد بـ”ملهم المتظاهرين الإيرانيين”، بعد أن تحولت تظاهرات أيام الجمعة في زاهدان “رمزاً للغضب والمقاومة”، حيث يدعم الشيخ حركة المتظاهرين، ويدافع عن حقوقهم ويرفض قمعهم، كما ينتقد في خطاباته سياسات النظام والمرشد الأعلى على مدى 44 عاماً.
في مقطع فيديو نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، يسير مئات الرجال معاً في الشوارع وهم يهتفون “الموت لخامنئي” في إشارة إلى المرشد الأعلى، علي خامنئي. ويظهر مقطع فيديو من جزء مختلف من المدينة مجموعة من النساء يتظاهرن “سواء بالحجاب أو من دونه”، ويهتفن في انسجام تام “هيا إلى الثورة”. وقالت الصحيفة الأميركية إن “هؤلاء المتظاهرين هم من أتباع مولوي عبدالحميد إسماعيل زهي، المعروف على نطاق واسع في إيران باسم مولوي عبدالحميد، وهو أبرز رجل دين سني في بلد تحكمه حكومة دينية شيعية”. وذكر محللون وناشطون بحسب الصحيفة أن “حملة القمع الدامية نهار 30 سبتمبر كانت تهدف إلى توجيه رسالة إلى المحتجين ومعظمهم من عرقية البلوش، وإلى مولوي عبدالحميد نفسه، لكن بدلاً من التراجع طالب رجل الدين السني على الفور بتقديم قوات الأمن المسؤولة عن عمليات القتل إلى العدالة وأن تستجيب السلطات لدعوات المتظاهرين للتغيير”. وأسبوعاً بعد آخر، يستخدم عبدالحميد خطبة الجمعة بمسجد مكي في زاهدان للضغط على الحكومة، على رغم أنه لم يذكر خامنئي بالاسم.
ويقول عبدالحميد “متنا لكننا لم نقتل أحداً… ولن نسمح لأي شخص بقتل أي شخص آخر. فقط اسمحوا بالتعبير حتى يتمكن الناس من التحدث. لم أكن أريد شيئاً من الحكومة، ما أردته هو معاقبة من أطلقوا النار على الناس”. في الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي دعا الشيخ عبدالحميد في خطبة الجمعة إلى إجراء استفتاء في إيران بحضور المراقبين الدوليين. وقال إن “الشعب الذي يتظاهر منذ 50 يوماً في الشوارع لن تستطيعوا إرغامه على التراجع عبر القتل والاعتقالات”.
من هو الشيخ عبدالحميد؟
ولد الشيخ عبدالحميد إسماعيل زهي في عام 1947 في قرية “كلوكاه” القريبة من العاصمة زاهدان، وبعد إنهاء الدراسة في المدارس الابتدائية، توجه نحو باكستان المجاورة لمحافظة سيستان وبلوشستان الإيرانية كي يدرس في المدارس الدينية هناك. وعندما أكمل عبدالحميد الدراسات الإسلامية لدى الشيخ عبدالله الدرخواستي وحصل على الإجازة في التفسير والفقه والحديث، عاد إلی زاهدان واتصل بالشيخ عبدالعزيز السربازي، حيث اختاره نائباً له في شؤون إدارة معهد “دار العلوم” زاهدان و”الجامع المكي”. أصبح عبدالحميد الذي يلقب بـ”مولوي” و”شيخ الإسلام”، زعيم المدرسة الدينية منذ عام 1987 إلى اليوم. ويشرح الموقع الإلكتروني التابع له أن الشيخ “يحمل أفكاراً تدعو إلى الوحدة الإسلامية، بخاصة بين الشيعة والسنة، كما يخالف التفرقة وإطاحة الدولة. ويؤكد استقلال ووحدة أراضي الوطن”. وذكرت قناة “بي بي سي” أن الشيخ يفتي حول حقوق أهل السنة من الشعب الإيراني، من خلال “التمسك بالحلول القانونية لنيل الحقوق والحريات، ومخالفة أي انتفاضة مسلحة ضد الحكومة”.
أما بالنسبة إلى أفكاره الدينية والسياسية، فلا تخرج عن دائرة أي رجل دين آخر من أي مذهب إسلامي، فهو يصف أن إسفار النساء في البلاد جاء نتيجة لتسلل الثقافة الغربية داخل المجتمع الإيراني عبر الأقمار الاصطناعية، كما يقول إن “الشريعة الإسلامية لا تسمح للمرأة بالسفر من دون محرم”. ويتمتع الشيخ عبدالحميد بشعبية لدى أهل السنة الذين يشكلون 20 في المئة من سكان البلاد بحسب تقارير خاصة بهم. وبينما تخشى السلطات أن يكون للسنة في إيران زعيم خاص بهم دون مقام الولي الفقيه علي خامنئي، جاءت تأكيدات عبدالحميد في ما سبق عدم وجود طموحات لدى علماء أهل السنة بأن يكون لهم زعيم دون المرشد الأعلى. مع ذلك كشف الشيخ في عام 2014 عن أن السلطات الإيرانية منعته من السفر إلى مكة المكرمة، بغية المشاركة في “مؤتمر مكة المكرمة لرابطة العالم الإسلامي”، ونشر الشيخ بياناً مختصراً على موقعه الخاص، حينها، جاء فيه أنه لن يحضر المؤتمر الدولي (المنتدى العالمي لرابطة العالم الإسلامي)، والذي من المقرر عقده في مكة المكرمة، “وذلك لبعض الاعتبارات والقضايا”، ولكنه أعلن في ما بعد في حديث مع صحيفة “اعتماد” الإصلاحية عن ممانعة النظام زياراته الخارجية، حيث أراد السفر إلى دولة قطر للقاء بعض أقاربه، ولكن لم تسمح له السلطات بذلك، كما أعلن عن تقييد رحلاته الداخلية إلى المحافظات الأخرى بغية لقائه أهل السنة، لتقتصر زياراته على مدن محافظة سيستان وبلوشستان. ووفقاً لما جاء على موقع “إيران بوست” في يوليو (تموز) 2018، كان 19 نائباً في البرلمان الإيراني طالبوا وزير الأمن بإلغاء قرار منع الشيخ عبدالحميد من السفر إلى أنحاء إيران، ذلك أنه ممنوع من السفر خارج إيران وكذلك داخل الحدود الإيرانية، إلا إلى العاصمة طهران للمشاركة في المناسبات الرسمية فقط، بحسب الموقع.
محاولة تشويه السمعة
ويذكر تقرير “واشنطن بوست” أنه بعد قرصنة موقع وكالة أنباء “فارس” التابعة للحرس الثوري، نشرت مجموعة “بلاك ريوارد”، على موقعها على “تيليغرام”، نشرة أخبار سرية كانت تعدها الوكالة خصيصاً لقائد الحرس الثوري، جاء فيها أن المجلس الأعلى للأمن القومي والشرطة توصلا إلى حل يقضي باعتقال إمام أهل السنة في زاهدان، إلا أن المرشد الأعلى رفض ذلك. وقال “لا ينبغي القبض عليه، بل إلحاق العار به”. وبينما أكدت الوكالة صحة إعداد النشرات السرية، نفى مكتب خامنئي صحة تلك الأخبار المتداولة واعتبرها مجرد إشاعات. ولم تستطع “واشنطن بوست” تأكيد صحة الرسالة بشكل مستقل، لكن الرسالة وبحسب خبراء تتفق مع جهود سابقة بذلتها الحكومة لتقويض الشخصيات الإصلاحية. في غضون ذلك، انتشرت مقاطع فيديو تظهر لافتة كبيرة في مدينة زاهدان تحمل صورة عبدالحميد وتعليق “شيخ الإسلام خط أحمر”، وتظاهر المئات دعماً له.
وأشار الشيخ عبدالحميد وبشكل ضمني إلى الوثائق المسربة في خطبة الجمعة الماضية، مصرحاً بأنه “لو أن الحكم بيدكم اليوم، فذلك من مشيئة الله. ولو كان لنا بين الناس محبة وسمعة حسنة، فذلك عطاء الله. وما يمنحه الله هو وحده القادر على سلبه، فلا يمكن لأحد آخر سلب العزة”. وعن التطورات الجارية في البلاد قال “نريد بلداً آمناً وموحداً. ليس لدينا مواطن شيعي وفي الجانب الآخر مواطن سني وقوميات ومذاهب مختلفة، بل كل من يعيش في إيران هو مواطن لديه حقوق يجب مراعاتها”، كما احتج على أحكام الإعدام الصادرة في حق المتظاهرين وبينهم قاصرون.
يذكر أن السلطة القضائية الإيرانية، أعلنت يوم الأحد 4 ديسمبر الحالي، إعدام أربعة رجال أدينوا بـ”التعاون” مع إسرائيل. وأورد موقع “ميزان أونلاين” التابع للسلطة القضائية أن “هذا الصباح، نفذت الأحكام الصادرة في حق أربعة من الأعضاء الرئيسين في مجموعة من المارقة مرتبطة بأجهزة استخبارات النظام الصهيوني”. وكانت السلطات الإيرانية أعلنت لأول مرة، نهاية الشهر الماضي، عن سقوط 300 قتيل، منذ اندلاع الاحتجاجات في سبتمبر الماضي.
وتنقل الصحيفة الأميركية عن مدير برنامج الدراسات الإيرانية في جامعة “ستانفورد” عباس ميلاني، أن “مولوي عبدالحميد يتمتع بمكانة تجعل النظام غير قادر على أن يمسه. ولطالما كان عبدالحميد شخصية صريحة في إيران لسنوات عدة، وينظر إليه على أنه زعيم الأقلية البلوشية وكذلك المجتمع السني”. وفسر ميلاني رسالة المرشد الأعلى التي سربتها مجموعة “بلاك ريوارد”، على أنها تعني “علينا فقط أن نشوه سمعته، بعبارة أخرى، إضعافه أولاً في نظر الجمهور، ثم ربما يمكننا اعتقاله أو قتله”.