بائع متجول: مسرحية آرثر ميلر انطلاقا من الواقع الأردني والعربي

المعتمد المناصير: غيرت في العمل لأقول إن الانتحار ليس هو الحل

النشرة الدولية –

العرب –  حنان مبروك –

قد يتدخل المخرجون بقليل من التعديلات في إعادة تقديمهم للمسرحيات الكلاسيكية الشهيرة، لكن المخرج الأردني المعتمد المناصير اتجه نحو أسلوبه الخاص أكثر من التزامه بتعريب النص الإنجليزي لمسرحية “موت بائع متجول” لآرثر ميلر، وعوض أن تكون المسرحية مطلقة السواد والترميز فإنها تحولت إلى حكاية أمل توجد نهاية مختلفة للبائع المتجول.

في العام 1949، عرضت للمرة الأولى مسرحية “موت بائع متجول” للكاتب المسرحي الشهير آرثر ميلر لتحقق نجاحا وشهرة واسعين، وتترجم إلى أكثر من عشرين لغة حيث تتناول موضوع الصراع بين الأجيال داخل العائلة الواحدة، وقلة تقدير الجيل الشاب لتضحيات الجيل الذي سبقه وتنتقد بين صفحاتها الحلم الأميركي، والنظام الرأسمالي الجشع، وسلّط فيها الكاتب الضوء على قضية الفقر والطموح ضمن بعدين مختلفين، الأول هو العائلة الواحدة، وما ينتج عنه من تفكك وتناقضات في وجهات النظر، والثاني في الاستغلال والطمع اللذين يمارسهما أصحاب رؤوس الأموال وما ينتج عنهما من أزمات اجتماعية.

وتعتبر “موت بائع متجول” أكثر المسرحيات الأميركية شهرة، وهي تدرس الآن في مختلف أنحاء العالم فهي نموذج للمسرح الكلاسيكي من القرن العشرين. حصلت على جائزتي “بوليتزر” وجائزة نقاد الدراما.

وبعد مرور أربع وسبعين عاما على أول عرض للمسرحية، أعاد المخرج الأردني المعتمد المناصير تجسديها، لكن هذه المرة بتناول مختلف، يضيف إلى نص ميلر الأصلي الكثير من الجمال الموسيقي والكوريغرافي، ويغير في نهايته بما يبعث الأمل في النفوس المسرحية من إنتاج شركة زعل وخضرة للفنون الإبداعية، سينوغرافيا وإخراج المعتمد المناصير، إعداد عمر نقرش، وشارك في التمثيل كل من عمران العنوز وميس الزُعبي ومحمود الزغول ومثنى الزبيدي، كما شارك الممثل وعازف الناي أمين جبار والممثل الكوريغراف رشيد الحسن. فيما أشرف على التأليف الموسيقي عبدالرزاق مطرية.

لا داعي للموت

رؤية مسرحية مختلفة
رؤية مسرحية مختلفة 

تحكي النسخة الأصلية للعمل المسرحي قصة ويلي البائع المتجول الذي يعود إلى منزله مرهقا بعد رحلة عمل ملغاة. وبدافع القلق على صحة ويلي الذهنية وحادث السيارة الذي حصل له مؤخرا، تقترح ليندا زوجته أن يطلب من مديره، هاوارد واغنر، السماح له بالعمل في مدينته دون أن يضطر إلى السفر خارجا، يشتكي ويلي إلى ليندا أن ولدهما بيف لم ينجز شيئا يذكر في حياته حتى الآن. على الرغم من وعد بيف بذلك كونه رياضيا في المدرسة الثانوية، إلا أنه أخفق في مادة الرياضيات وبذلك لم يرتد الجامعة أبدا.

تتعقد الأحداث ويدخل ويلي في صراعات مع رئيسه في العمل، حتى طرده، كما يدخل في صراعات ومناوشات مع أبنائه، فيختار الانتحار بحادث سيارة يرجو من خلاله أن تحصل عائلته على أموال التأمين.

وفي النسخة الأردنية، لا يختلف حال البائع المتجول عن غيره العامل في أي دولة، ولا حتى البائع المتجول العامل في العام 2022 وذلك الذي أثار رغبة ميلر في كتابة واحدة من مسرحياته الكلاسيكية الخالدة، فهو عامل مظلوم، يفني عمره في التنقل من بلدة إلى أخرى، يتحمل القيظ والبرد الشديد ليوفر لأبنائه ما يسد رمقهم، فكل ما يبيعه من حق “سيده” وهو لا يحق له إلا العمولة. وهؤلاء الباعة هم أغلبهم يعملون دون حقوق اجتماعية واقتصادية، ويستغنى عنهم بسهولة وفي أي وقت يقل فيه مردودهم المهني.

هذه النسخة تلغي منذ عنوانها فعل “الموت” لتحكي لنا قصة “بائع متجول” تبعث الأمل بأن الانتحار ليس الحل

لكن هذه النسخة تلغي منذ عنوانها فعل “الموت” لتحكي لنا قصة “بائع متجول” مختلفة وتبعث الأمل في المشاهد بأن الانتحار أو اختيار الموت ليس هو الحل الأفضل لمشكلات الحياة.

عن ذلك يقول المخرج المعتمد المناصير في لقائه مع “العرب” “مسرحية بائع متجول هي عن نص “موت بائع متجول” لآرثر ميلر، ولكن ما قدم على خشبة المسرح البلدي بتونس وقدم سابقا في بعض المهرجانات المسرحية العربية يختلف تماما عن النص الأصلي، فقد قمنا بكتابة النص بطريقة مختلفة عن عمل ميلر، واختلف المضمون ففي النص الأصلي ينتحر ويلي في نهاية العرض ويموت، أما في عرضنا فاعتمدت على الحركة والصور المتغيّرة عبر مشاهد من عالم البرزخ تمتد لعشر دقائق تتوقع ماذا يمكن أن يحدث بعد خروج روح ويلي لمدة ثوان عندما قرر أن ينتحر شنقا”.

ويتابع “شنق ويلي لنفسه تفصيل غير موجود في النص ولا في النسخ المعيدة له. وهنا أردت أن أخبر الجميع بأنه بانتحارك لن ترتاح لا أنت ولا من بقي خلفك كالعائلة والأقارب والأصدقاء فسوف يؤثر انتحارك عليهم سلبا”.

وأضاف “شاهد ويلي في النسخة الأردنية للمسرحية ما يمكن أن يحدث لعائلته بعد انتحاره، فالشيطان عذب جثته، وأبناؤه أصبحوا يتعاطون المخدرات، ومن ثم قتل ابنه الأكبر بيف أخاه الأصغر هابي أمام عيني أمهما ليندا، ليندا التي أصبحت بدورها مقعدة من الحزن، وعندما رأت ابنها يقتل أخاه ماتت بسكتة قلبية، وإثر كل هذا الخراب، ينتحر الابن الأكبر بالمسدس الذي كان والده يريد أن ينتحر به، عندها فقط صرخ ويلي واستيقظ وقطع حبل المشنقة ورفض فكرة الموت نهائيا”.تراجيديا كلاسيكية

الانتحار أو اختيار الموت ليس هو الحل الأفضل لمشكلات الحياة
الانتحار أو اختيار الموت ليس هو الحل الأفضل لمشكلات الحياة

حافظ المخرج الأردني الشاب على ثنائتي الرمزية والواقعية في المسرحية ذات المنطلق الاجتماعي، لكنه منذ بدايتها أضفى عليها تغييرات إخراجية ولم يبق إلا على الأسماء الأربعة للعائلة ويلي، ليندا، بيف، هابي. ويقول المخرج إن “الأسماء ليست إلا أسماء، وهذه المشاكل ليست حكرا على العرب فقط بل العالم أجمع، لذلك لم أر ضرورة لتغييرها بأسماء عربية”.

ويبدأ العمل المسرحي بمقطوعة موسيقية يقدمها عازف ناي، يتضح لنا في آخر العمل أنه كان يفكر في الانتحار لولا أن اطلع على تجربة ويلي، يعزف الممثل والموسيقي مقطوعة شديدة الحزن، تأخذ كثيرا من الأزمة الوجودية والاجتماعية التي يعاني منها رب العائلة، وفي أحيانا كثيرة تجعل المتفرج متوترا، كما هو الحال بالنسبة إلى الشخوص.

وليضيف لمسته الخاصة ورؤيته الإخراجية إلى العمل، أدخل المخرج فعل الرقص على العمل التراجيدي الكلاسيكي، عبر حركات كوريغرافية يؤديها ممثل، سرعان ما يجسد شخصيات أخرى، منها الشيطان والضمير.

وعن ذلك يقول المناصير “عازف الناي شخصية غير موجودة في النص الأصلي وكذلك الراقص، والمسرحية اختزلت من ثلاث ساعات ونصف الساعة إلى خمسين دقيقة، النص الأصلي يعتمد على السرد الذي لم نلتزم به”.

المخرج الأردني حافظ على ثنائيتي الرمزية والواقعية في المسرحية ذات المنطلق الاجتماعي، لكنه منذ بدايتها أضفى عليها تغييرات إخراجية

ويتابع “عازف الناي هو أحد الشباب في وقتنا الحالي قرر الانتحار بسبب المشاكل التي يعاني منها الشباب مثل البطالة والتفكك الأسري وعدم وجود فرص للعمل والفقر والحلم في الهجرة. قرر الانتحار بإلقاء نفسه على سكة القطار وعزف معزوفته الأخيرة، لكنه التقى البطل ويلي لومان، كان العازف يعزف الناي عند أي فعل يخص الانتحار، ويعزف بآلة الفلوت داخل العرض المسرحي، الناي يرمز إلى الشرق، والفلوت يرمز إلى الغرب، وهنا أردت القول إننا متشابهون في مشاكلنا. أما الراقص فهو الشيطان الوسواس الذي كان يوسوس للعازف بالانتحار، وكان يوسوس للبطل ويلي لومان بالانتحار بالسيارة في أول مرة، وفي المسدس في المرة الثانية، وبالمشنقة في المرة الثالثة”.

ولم ينحرف المخرج الأردني الشاب عن النص الأصلي كثيرا على مستوى طرحه للقضايا الكبرى، بل اكتفى باعتماد الترميز والاختصار في الحوار والنص، ليحكي لنا مشاكل منطقتنا انطلاقا من الواقع الأميركي، ودون الحديث عنها صراحة، وهو ما انتقده بعض النقاد والصحافيون ممن تناولوا العرض المسرحي بالنقد والتحليل. لكن العمل في حقيقته يبدو متجانسا، يبلّغ رسائله بالكثير من الوضوح ويعتمد على الفنون المتجانسة مع التشخيص الجسدي للتعبير عن الصراعات النفسية، ولعل أبرزها ما كان عبر فعل الرقص.

وطغى الأسود، ذلك اللون الداكن الذي يرمز إلى القلق والخوف والمعبر عن الظلم والفساد على أزياء الممثلين، ويقول المعتمد المناصير إنه اختار هذا اللون ليكون “دلالة على السوداوية في حياة الأسرة بسبب المشاكل المذكورة مسبقا، أيضا السوداوية في عقل كل من يحاول الانتحار أو يفكر فيه”.

وتأتي المسرحية مع هذه التغييرات لتكون تشريحا لوباء اقتصادي واجتماعي موجود في كل زمان ومكان، فالأزمة ليست أميركية ولن تكون كذلك أبدا، والعمل المسرحي جاء مفعما بالمشاعر مثيرا لها، على عكس العمل الأصلي “موت بائع متجول” الذي يعتبر باردا، مغرقا في الخيالات، لا يتلامس مع الحياة الواقعية بل يرمز إليها، ولا يُظهِر صراعات النفس البشرية مثلما حدث مع “بائع متجول”.

وانطلاقا من هذا العمل، سألنا المخرج المعتمد المناصير إن كان قد حدد له مشروعا مسرحيا خاصا للعمل عليه خلال تجربته المسرحية أو أنه سيستمر في تنفيذ أعمال التراجيديا والمزج بين الواقعية والرمزية، فقال ” مبدئيا، ليس هناك مشروع مسرحي خاص بي، فما زلت في بداياتي الفنية ولست مرتبطا بأي مدرسة أو منهج، أنا أبحث عن فكرة ومشكلة معيّنة أريد أن أطرحها وأتحدث عنها وعن أسبابها وطريقة حلها، ومن ثم أبحث عن نصوص تتحدث عن هذه القضية سواء كانت عربية أو أجنبية، ربما تكون نصوصا تراجيدية أو كوميدية، وإذا تطلب الأمر ولم أجد فسأكتب نصا خاصا، ومن كل هذه المحاولات سأعثر على رؤية إخراجية ومدرسة أشتغل عليها”.

 

زر الذهاب إلى الأعلى