متلازمة القضية المتيبّسة
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
بعد ظهر يوم غد الخميس، تلتقي على النت (زووم) في إسرائيل، مجموعة من الغروبات الناشطة تحت شعار “لنغادر البلاد.. معاً”.
في الرسالة التي عمّموها بالسوشيال ميديا للتعريف بهذه الحركة، قال نشطاؤها إن تنظيم هذه المجاميع – وقد تزايد المؤمنون بها إلى المئات- جاء نتيجة ما يحصل الآن في إسرائيل من تغيير يتجاوز النظم والأشخاص المتنافسين على السلطة، ليتمثل بتغيير في طبيعة الدولة نحو الأسوأ.. تغيير بدّلَ هيئة الحياة فلم تعد كما كانت في السابق.
وفي هذا السرد المعزّز بالشواهد، يشخصون نتائج الانتخابات الأخيرة والتشكيلة الحكومية المتعسّرة، بأنها تسييس للدين أو عسكرته بشحنات كراهية تستحضر التاريخ بكوارثية منظورة لم يجدوا حلاً لها إلا الهجرة المعاكسة..
مغادرةٌ جماعية دفعتها الأولى عشرة آلاف شخص يبرمجون الآن لترحيلهم إلى الولايات المتحدة، ومجموعة أخرى من الدول التي يتم الاتصال بها لتسهيل الإجراءات.
كلاهما، القائمان بشكل رئيسي على هذه الخرْجة الأولى من نوعها، يائيف غوريليك ومردخاي كاهانا، يؤكدان أنهما صهيونيان “حتى العظم”، وأن ما يفعلانه هو الأمر الوحيد الذي بات متاحاً لإنقاذ الصهيونية.
يتحدثان بشكل متماسك ومن قلب اللحظة المأزومة.
إن ما يقوله المتطوعون اليهود عن البدء بحملة “لنغادر إسرائيل.. معاً” ليس مجرد استطراد للنبوءة المتوارثة بقدر ما هو بوح متجدد بأن للقلق ما يبرره، ومَن يشارك به في موقع القرار.
في سرديتهم اليائسة لرفع شعار الهجرة الجماعية المعاكسة، أن مبرر وجود إسرائيل – كما قامت عليه الصهيونية في الأساس – هو جمع الشتات اليهودي، لكن تسييس الدين بكل هذه الشحنة من الفاشية والكراهية والدم، فكّك روافع الدولة، ونزع عنها ذرائعها، وجعل مصيرها مادة للمخيّلة، في تاريخ يؤمن المتدينون اليهود أنه يستعيد نفسه.
في بعض ما يقوله الرجلان اللذان حمّلا نفسيهما “أمانة” إنقاذ اسرائيل من مغبّات ما يفعله مُسيّسو الدين، ما جعل صحيفة كـ”جيروزاليم بوست” تفرد له وتتوسع.
يقول كاهانا: “حان الوقت لتقديم بديل للحركة الصهيونية ما دامت الأمور مستمرة بالتدهور في إسرائيل. لا أتمنى أن يتم تدمير البلد. لكن ما الحيلة ما دام يجري تدميرها؟”.
ويعزز الرجل ما يفعله الآن، باستذكار أنه إجراء متسق لا تنقصه الحماسة: “بعد سنوات من عملي التطوعي بتهريب اليهود من مناطق الحرب في اليمن وأفغانستان وسوريا وأوكرانيا إلى اسرائيل، قررت الآن مساعدة الإسرائيليين في الهجرة.. الهجرة إلى الولايات المتحدة”.
ويعتقد كاهانا أن السبب يتمثل في أن اليهود لم يعرفوا كيف يحكمون إسرائيل، أساؤوا كثيرا، ومصيرهم العودة للعيش في الشتات، مستذكراً من التاريخ القديم أن تدمير الهيكل الثاني كان بسبب العيش في مجتمع الكراهية، الذي وصفه بأنه يشبه ما يحدث في إسرائيل 2022.
بكل الأحوال، فإن ما يقوله هؤلاء المتطوعون اليهود عن البدء بحملة “لنغادر اسرائيل.. معاً”، ليس مجرد استطراد للنبوءة المتوارثة، بقدر ما هو بوح متجدد بأن للقلق ما يبرره، ومَن يشارك به في موقع القرار.
حتى الرئيس المكلف، بنيامين نتنياهو، وهو يخوض معركة كسر ظهر مع حلفائه لتشكيل الحكومة، ومع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن من جهة أخرى، لم يستطع قبل أيام أن يتفادى التعبير عن قناعته بأنه – هذه المرة – يتحدث عن دولة مهددة بكيانها، حديثاً من موقع الضعف. قال إن وجودنا (إسرائيل) لم يعد بديهياً أو أمراً مفروغاً منه.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتحدث فيها عن نهاية إسرائيل، لكنها جاءت مبللة بالضعف.
في علم النفس السياسي، يسمّون التوالي والتنويع في مقولات أو نبوءات قرب نهاية إسرائيل بـ”لعبة الخداع البصري”، لعبة فيها أكثر قليلاً من اشتباك الحدس والمخيّلة مع طعم اليأس والمفاجأة.
قبلها، في عام 2017، كان (نتنياهو) قال إنه حريص أن تبلغ إسرائيل المئوية الأولى، لكن التاريخ يخبره أنه لم تعمّر لليهود في كل تاريخهم، دولةٌ أكثر من 80 سنة، سوى مرة واحدة، هي دولة الحشمونائيم، ولم ينس يومها القول: “نحن إلى الفرج أقرب.. أبشروا”؛ وهي نغمة يتفاداها الآن.
العام الماضي، وهي تستذكر الذين تنبأوا بقرب نهاية إسرائيل (وهم كُثُر، يهوداً وغير يهود)، أسهبت صحيفة “جيروزاليم بوست” في معالجة النبوءة البراغماتية الأكثر صخبا وتوجيعا، التي كانت نُسبت إلى مستشار الأمن القومي وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر.
ففي أيلول 2012، نُسب في الصحافة الأمريكية الرصينة إلى كيسنجر قوله إن “الدعم الأمريكي لإسرائيل يضعف، وإنها (إسرائيل) قد لا تكون موجودة بعد عشر سنوات”.
الجديد الذي جاءت به “جيروزاليم بوست” هو أنها نقلت من مكتب كيسنجر قولهم إنه لم تصدر عن الرجل نبوءة كهذه، لكنه وهو يشارف المئة في العمر وما زال بكامل قيافته العقلية، لم يجد مبرراً لنفي أو تأكيد هذه القناعة التي تناوب على مثلها كثيرون، آخرهم كان رئيس دولة إسرائيل الحالي إسحق هرتسوغ، الذي قال الأسبوع الماضي إن دولته تشهد انشقاقاً خطيراً يهدد بتقويضها من الداخل.
في علم النفس السياسي، يسمّون كل هذا التوالي والتنويع في مقولات أو نبوءات قرب نهاية إسرائيل بـ”لعبة الخداع البصري”، لعبة فيها أكثر قليلاً من اشتباك الحدس والمخيّلة مع طعم اليأس والمفاجأة، هي خليطٌ من الحواس في موقع التحدي: ترى أمامك مشهداً حاشداً بالأشكال والألوان المتفاوتة التي تُعطي صورة فورية يمكن قراءتها بيُسرِ، يُطلب إليك أن تحدق فيها بضع دقائق.. وباستنفار عصبي لن يلبث أن يتكشف أمامك فجأة مشهد آخر مختلف تماماً لم تكن تتوقعه، مع أنه كوجود في ذات الخطوط والألوان والتشكيلات التي أمامك.. أنت تندهش باكتشاف خطئك، وهم يكملون اللعب مع غيرك.
خداعُ المشهد البصري الإسرائيلي الذي تتناوبه نبوءات اقتراب النهاية، مردُّه أن جزأه الفلسطيني المحتل معطل، لا يشتغل، وبالتالي، تفلت اللعبة البصرية ولا تأخذ مداها في المتعة.
فالذين يتسنّدون على مستجدات الموقف الأمريكي واحتمالية التخلّي عن إسرائيل، أو على متغيرات النظام العالمي بعد حرب أوكرانيا، أو على متواليات مأزق نتنياهو مع شركائه في الائتلاف الحكومي، ثلاثتهم يقرأون من المنطق أو من التاريخ، ما ليس موجوداً في الجغرافيا، التي هي القاعدة والأساس.
فالجغرافيا السياسية الفلسطينية، ممثلة بالسلطة في رام الله، غائبة عن المشهد.. مُغيّبة عن “لعبة الخداع البصري” الخاصة بمصير إسرائيل. التنبؤ بقرب نهاية دولة اليهود يقتضي بالضرورة وبالنماذج التاريخية المُلهمة للمخيلة، أن يكون للسلطة الفلسطينية مكان في معركة مجدّو (هرمجدون) السياسية التي يُفترض فيها أن ترفع الستارة عن المشهد الختامي.
في اتفاقيات أوسلو وما تداعى بعدها، ارتضت السلطة الفلسطينية لنفسها الغياب والتوجع والملاومة، حتى أضحى المشهد يتواصل قريبا مما يوصف علميا وطبيا بـ” متلازمة القضية المتيبّسة”.
هل قرأتم عن مواصفات متلازمة التيبّس؟
عندما يغيّب أصحاب القضية أنفسهم بمرض نقص المناعة والتخشب الميؤوس من شفائه، طبيعي ألا يكونوا جزءاً من متعة لعبة الخداع البصري الجارية الآن، وموضوعها التكهن بموعد نهاية إسرائيل.