لماذا هذا الانبهار الشرقي بـ”نظريات المؤامرة” جلّابة التخلّف والموت والتقهقهر؟
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
لم تُذهلني “نظريّات المؤامرة” التي حاكها البعض حول النتيجة التي انتهت إليها مباراة فرنسا والمغرب، في نصف نهائي “مونديال قطر”، على الرغم من “فظاعة” العقل الذي صاغ خلفيّات جيو سياسيّة ضخمة ليزعم أن “أسود الأطلسي” اضطّروا أن ينحنوا أمام “ديوك أوروبا”!
لم تُذهلني هذه النظريّات، لأنّنا نحن الذين ترعرعنا في هذا الشرق المليء بالخيبات والأزمات والكوارث والفشل والحروب والنزاعات، أدمنّا عليها، لا بل بتنا أمام كلّ حدث قادرين على التنبؤ بما سوف يحمله إلينا من تفسيرات “همايونيّة” لا وظيفة لها سوى إبعاد مسؤوليّة النكسة عن صانعها وتصويره مجرّد ضحيّة لمؤامرة كونيّة لا يملك ما يكفي من قدرة على التصدّي لها، وكلّ ذلك، بهدف تحشيد الناس، من خلال ضخّ مزيد من الكراهيّة والحقد والتطرّف، في نفوسهم القلقة والمضطربة.
بطبيعة الحال، لا علاقة للمنتخب المغربي الذي خاض جولات مميّزة على امتداد رحلة المونديال، وحلّ، بعد هزيمته أمام كرواتيا أمس، في المرتبة الرابعة عالميًّا، متقدّمًا على عمالقة كرة القدم التقليديّين، بكل هذه النظريات، لا بل يمكن القول إنّ لا علاقة للمغرب نفسه بها، إذ إنّ هذه المملكة، ووفق ما يؤكّد كبار الباحثين السياسيّين، تتقدّم، بثبات وهدوء ومنهجيّة، إلى احتلال موقع مرموق في ركب التطوّر، بعيدًا من المسار الشعبوي الفارغ الذي جعل دولًا مرموقة تنحدر الى قعر الجحيم!
في الماضي قيل إنّ “ألدّ أعداء الإنسان نفسه”. وهذا القول يصح، اليوم بالقدر نفسه، على المجموعات والكيانات والدول، وكل من يرفض الإعتراف بصحّته يسحبه التخلّف الى الحفرة وكل من يتعامل مع واقعه، على أساسه، ينهض ويتقدّم.
في الدول التي تعتنق ثقافة التطوّر، لا يذهلك شيء، وأنت الآتي إليها من دول “الفخر” بالذات و”هجاء” الآخر و”مديح” الأقوياء، أكثر من “النقد الذاتي”. في تلك الدول يفتّشون عن ثغراتهم ويناقشونها، يدققون في نقاط ضعفهم ويعالجونها، يبذلون أثمن أوقاتهم في الفصل بين الصحيح والمزوّر ويسيرون في هديها.
في هذه الدول يؤمنون بأنّ النّجاح ليس وليد صدفة ولا نتاج هبة تهبط من فوق، بل هو ابن التفكير والتخطيط وتوفير القدرات والجهد الكبير، أمّا في الدول التي ينتمي إليها “فاضحو المؤامرات”، فلا يجدون في الثمار التي تنتجها هذه المميّزات الواجبة سوى “خطة سوداء” هدفها أن تحرمهم، وهم الذين لا يؤمنون إلّا بالعنف ولا يبالون إلّا بالغرائز، من حقوقهم التي جادت بها عليهم السماوات وربّها!
أكثر من يعشق مروّجي المؤامرات ويشجعهم ويحميهم هو الديكتاتور الذي إذا انتفض شعبه عليه، بسبب تجويعه وسرقته واستعباده واعتقاله واحتقار عقله، حمى نزعته إلى اعتماد العنف المفرط، بالإختباء وراء مقولات المؤامرة.
وهذا الديكتاتور حتى يرفع عن نفسه مسؤوليّة إغراق الدولة التي يتحكم بها وبشعبها، يجد أفضل حليف في “نظريات المؤامرة”، فالصاروخ الذي صنعه للصعود الى القمر حطّمه المتآمرون، والثروات التي جذبها إلى بلاده بدّدها المتآمرون، والتكنولوجيا التي تفتقت عنها عبقريته سرقها المتآمرون، والجنّة التي فرشها تحت أقدام شعبه حرقها المتآمرون.
بديهي أن يدفع الإنسان ثمن خياراته، ولكن ما لا يمكن أن يكون طبيعيًّا أبدًا أن يذهب الإنسان في خياراته الى حيث لا تعينه قدراته مطلقًا، لأنّ هذا طريق السقوط الذي يعين الأعداء، إذا وجدوا!
والذكاء مسألة رائعة شرط أن يكون الذكاء ذكاء وليس تذاكيًا. نظريات المؤامرة، لسوء الحظ، هي نتاج التذاكي وليس الذكاء!
والمستقبل الوردي لا يصنعه المتذاكون إنّما الأذكياء، ولكن مصيبة المجتمعات تبدأ عندما يسيطر المتذاكون على الأذكياء، فرواية المؤامرة جذّابة، ولكنّ جابيّتها “خرّابة بيوت”، لأنّها تهمّش خطط الأذكياء التي وحدها “تُعمّر البيوت”.
عاجلًا وليس آجلًا، سوف نرى دولًا عربيّة عدة في طليعة هذا العالم، وقد بدأت المؤشرات تتكاثر، وكلّ ذلك لأنّ هذه الدول أقصت المتذاكين لمصلحة الأذكياء، وأدركت خارطة الطريق التي لا بدّ من اعتمادها للتحليق فوق فوهة الجحيم، ولكن ثمّة مشكلة واحدة يمكن أن تعترض هذا المسار الإيجابي يكمن في أنّ “منظرّي المؤامرة” ينتظرونها على “مفرق الطريق” حيث يضخون كل مكوّنات الضغينة التي لا هدف لها سوى أن تحجب النور عن العيون، والوعي عن البصائر، والمنطق عن العقول والراحة عن النفوس.