بانتظار إعادة تعريف الحضن
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

توقيع بايدن على قانون يشرّع ويحمي زواج المثليين، سيسهل ويسرّع الإقرار التشريعي لاتفاق سيداو الخلافي، الذي يعيد توصيف الأسرة ويجتاح شرائع وأعرافاً إنسانية سادت آلاف السنين.

بعد ظهر يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، احتشد الآلاف في الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض ليشهدوا الرئيس الأمريكي جو بايدن وهو يوقع تشريع زواج المثليين ليصبح قانوناً.

البيت الأبيض وصف المشهد الاحتفالي بأنه لحظةٌ لها أهميتها المعتبرة، فيما وصفته شبكة “سي أن أن” بأنه حدث فارق في التاريخ السياسي والثقافي الأمريكي.

ومع ذلك، وربما لأن اللقطة كانت طريّة زيادة، فقد فاتت دون أن تحظى بما تستحقه من تدقيق في خلفياتها وما قد يعقبها.

كانت اللقطة خفيفة: بايدن يضحك بأكثر من لهجة، حتى بدا وكأنه يزغرد. على جانبيه ومن خلفه، ظهرت في الصورة زوجته تبتسم بنصف إغماضة، ونائبته في الرئاسة كاملا هاريس لا تكاد تتوقف عن الضحك، إلا لتستذكر أنها شاركت مؤخراً في زفاف للسحاقيات في سان فرانسيسكو، أما نانسي بيلوسي التي لم تتوقف عن التصفيق، فقد ازدهتْ بالقول إنها توجّت رئاستها لمجلس النواب – قبل أن تغادره قريباً – بضمان توفير النصاب القانوني لتمرير مستحقات تشريع المثليين.

غابت عن الصورة كارين جان-بيير، أول امرأة سوداء ومثلية تشغل منصب المتحدثة باسم البيت الأبيض، كما لم يكن في اللقطة مكانٌ بروتوكولي لوزير النقل في حكومة بايدن، بت بوتيدجدج، باعتباره أول وزير في التاريخ الأمريكي يجاهر بأنه من مجتمع الميم.

كان مشهداً ملتبساً بالعفوية التي ربما يصعب على البعض تصديقها، فتجعلهم يدققون بالملامح ولغة البدن ليتأكدوا من صدق ما يرون.

شيءٌ أدبيٌ مماثلٌ للذي كانت الكاتبة والشاعرة والناقدة الكندية الأشهر، مارغريت آتوود، قالته في أن “داخل كل امرأة، يقبعُ رجلٌ يراقب النساء. والأمر نفسه في الرجال. فالكل منا يتلصص على نفسه”.

الكلّ مِن حول بايدن كان يتلصص على نفسه.

كلاهما، زواج المثليين واتفاقية سيداو التي تعيد توصيف الأسرة، قضايا سياسيةٌ بنكهة عَولمة ثقافية واجتماعية ملتبسة.

ربما أيضاً لأن الناس عندنا وعندهم مشغولون بقضايا سياسية ومعيشية ثقيلة، لم يحظ حفل البيت الأبيض بالذي يستحق من التنبيش وقابلية التداعي في تغييرات جذرية تُعيد تعريف ما ظلّ يُحسب من البديهيات الإنسانية على امتداد ملايين السنين.

فما عمّمته وكالات الأنباء من القانون الجديد الذي وقعه الرئيس الأمريكي، لم يتضمن الإشارة الى أنه يلغي قانونا كان نافذا يُعرّف الزواج بأنه شراكة أو وِحدة تتم بين رجل وامرأة”.

في ذلك القانون الذي كان بايدن نفسُه وقع عليه عندما كان في منصب سيناتور، عُرفٌ إنساني متوارث في القارات الخمس، جرى شطبه الآن، لتصبح الحكومة هي الحامية لزواج المثليين.

لم يعد الموضوع ـ وإن كان له ما يمثله في عدد من دول العالم ـ مجرّد “نتعة” في أدبيات حقوق الإنسان غير المُلزمة لأحد.

فزواج المثليين، في القانون الذي جهّزت له إدارة بايدن، مرشّح لأن يكون ضمن رزمة الشروط (السريّة أو العلنية) التي تفرضها واشنطن على حلفائها أو الدول التي تتلقى المساعدات الثنائية منها أو عن طريق صندوق النقد والبنك الدوليين.

توقيع بايدن على قانون يشرّع ويحمي زواج المثليين، سيسهل ويسرّع الإقرار التشريعي لاتفاق سيداو الخلافي، الذي يعيد توصيف الأسرة ويجتاح شرائع وأعرافاً إنسانية سادت آلاف السنين، حتى وإن اختلف الناس على الكثير من حيثياتها.

ففي عام 1979 اعتمدت الأمم المتحدة اتفاقية سيداو (القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة). كانت الولايات المتحدة من بين الدول الموقعة عليها، إلا أنها رغم انقضاء أربعة عقود لم تعتمدها دستورياً، وظلت في ذلك واحدة من بضع دول، بينها الصومال وإيران والسودان، لم تقرّها وتنفذها حتى الآن. والسبب أنه في التركيبة الاجتماعية والثقافية الأمريكية، تفاوتات عمودية جديّة، منعت إقرار هذه الاتفاقية حتى اليوم، ليأتي إقرار إدارة بايدن الآن زواج المثليين فيعيد بالتأكيد طرح موضوع سيداو، ويجعل إقراره مسألة وقت.

كلاهما، زواج المثليين واتفاقية سيداو التي تعيد توصيف الأسرة، قضايا سياسيةٌ بنكهة عَولمة ثقافية واجتماعية ملتبسة.

فبعد مهرجان التوقيع، قبل ثمانية أيام، أعطى بايدن لما فعله طابعاً إنسانياً تحت شعار الحب، وأدرج فيه جُملة قضايا واعتبارات كان واضحاً أنها محسوبة بدقة. قال: “العنصرية ومعاداة السامية ورهاب المثلية، ورهاب المتحولين جنسياً.. كلها مرتبطة ببعضها البعض”.

ومباشرة في اليوم التالي، كان قاموس كامبريدج المرجعي يلغي التعريف الإنساني والفطري للرجل والمرأة، ويوسّعه لتصبح الجندرية “النوع الاجتماعي” وليس الجنس (الذكورة والأنوثة) هي المرجعية الثقافية والقانونية.

في التعريف القاموسي الجديد للرجل والمرأة يصبح المرجع هو الجندر الذي كانت لجان الأمم المتحدة منعت أن تكون له ترجمة باللغة العربية. ولعلها المرة الوحيدة من نوعها في تاريخ الأمم المتحدة التي يجري فيها منع الترجمة إلى لغة ما.

الجندرية التي جرى اعتمادها في قرار بايدن بتشريع زواج المثليين، هي الكيفية التي يرى فيها الشخص نفسه ويشعر بها، كذكر او أنثى. لا علاقة لذلك بخصائصه العضوية، وليس شرطاً أن تتوافق عنده الصفات العضوية مع الهوية الجندرية.

وتبعاً لذلك أصبح للجندر سبعة توصيفات يمكن لأي شخص أن يُعرّف نفسه بأيّ منها: تبدأ من الذكر والأنثى، وتشمل ثنائي الجنس والمتحوّل وغير المطابق والخصي، وتنتهي عند خيار الهويّة “الشخصية” التي ليس لأحد أن يطلبها منك إلا إذا أنت تبرّعت بها.

كان لازماً أن يُرى إقرار الرئاسة الأمريكية لزواج المثليين، في نصابه الذي جاء متبوعاً بتوسيع مفهوم النوع الاجتماعي وتغيير مفهوم الأسرة، واعتبار كل ذلك جزءاً من الحرب التي تقودها الولايات المتحدة واوروبا على العنصرية واللاسامية، وهي التي يجدون لها في الشرق الأوسط ساحاتٍ متجددة، وأبواباً دوّارة. فمن يستطيع التحكم في اللغة بمحو الخطوط البيولوجية بين الرجال والنساء، يمكنه التحكم في الناس.

في تغريدات ذوي الاختصاص من القانونيين والسياسيين، الذين شغَلَهم الأسبوع الماضي إقرار بايدن زواج المثليين ثم إعادة تعريف كلمتي الرجل والمرأة، قال أحدهم: ليكُن في عِلمكم أنه بعد اليوم سيصبح بالإمكان الكتابة رسمياً ودون أي عقوبة تشهير في قوانين المطبوعات: فلانٌ ذكر لكنه امرأة. فردّ عليه أستاذ جامعي بتعقيب مرير: ما دُمنا دخلنا رسمياً في إعادة تعريف البديهيات.. متى بتقديرك سيعيدون تعريف الحُضن باعتباره البديهية الإنسانية الخرساء؟

زر الذهاب إلى الأعلى