الأندلس: فرهود وسُمْر ولحى وبربر
بقلم: سعد بن طفلة العجمي

استقصاء "أصل الكلمات" يفتح آفاقاً لفهم العلاقات البشرية وكشف غموض بعض الحوادث التاريخية

النشرة الدولية –

يكشف علم معاني الأسماء وأصل الكلمات عن كنوز معرفية تاريخية هائلة ومثيرة، فكما هو معروف فإن لكل كلمة في أية لغة من لغات العالم أرشيفها وسجلها وتاريخها، وفتح سجل الكلمات يفتح آفاقاً لفهم العلاقات اللغوية والبشرية، ويميط اللثام عن غموض بعض الحوادث التاريخية.

أتلقى هذه الأيام دروساً في اللغة الإسبانية، وهي لغة أسهل من شقيقتها الفرنسية التي أجيدها، إلا أن العلاقة الجينية بين اللغات اللاتينية مثل الإيطالية والفرنسية والرومانية والكاتالانية والبرفينسال والإسبانية والبرتغالية، تسهل على الدارس تعلم إحداهن لمن يجيد أخرى.

قادني البحث اللغوي والتعرف على الإسبانية إلى تتبع معاني وأصل بعض الأسماء في مناطقها والتسميات التي تحويها، وكان على رأسها اسم الأندلس، فهذا الاسم الجميل بصدى حنينه اللغوي والتاريخي لدى العرب له معنى قبيح لا علاقة له بالصورة الجميلة التي تتبادر إلى أذهاننا حين نسمعه، فهو مشتق من الكلمة اللاتينية “فاندالوشيا” VANDALUCIA أي النهب، أو الفرهود كما يسمى بالعراق، وهو ما كان عليه الحال من قبائل تنهب وتسلب وتعيث في الأرض فساداً في شبه جزيرة إيبريا التي تضم إسبانيا والبرتغال اليوم، واستعرت الصراعات بين حكامها والاقتتال بينهم، وهذه الحال التي ربما فسرت السهولة النسبية لدخول العرب بقيادة طارق بن زياد بالقرب من الجبل الذي سمي باسمه والواقع على المضيق الذي سمي باسمه كذلك، فقد كان الناس هناك يبحثون عن الأمن والاستقرار، وهو ما تحقق لهم تحت الحكم الإسلامي شرط أن يدفعوا الجزية وهم صاغرون.

تختلف الروايات حول مصير طارق بن زياد حين استدعاه الخليفة الأموي إلى دمشق، تماماً كما اختلفت حول ما إذا كان قد قال خطبته العصماء الشهيرة لجنوده بعدما عبر بهم المضيق شمالاً نحو الأندلس، “البحر من وراءكم والعدو من أمامكم وليس لكم والله سوى القتال”، فبعض المؤرخين قالوا إن تلك الخطبة من اختلاق عصر التدوين لأن طارق بن زياد لم يكن يجيد العربية، فقد تربى بين أخواله البربر وتكلم الأمازيغية فقط.

ويسمي الإسبان من كانوا بالأندلس من العرب والمسلمين بالـ “مورز” MAURUS، كما أنها الاسم الشائع في الأدبيات التاريخية الأوروبية بكل لغاتها، والـ “مورز” أيضاً تسمية أصلها من اللاتينية التي تعني الأسمر، ويشيع اسم موريس بين الإسبان والبرتغاليين وبعض المسيحيين العرب بهذا المعنى، ومنها اشتقت الجمهورية الإسلامية الموريتانية اسمها واحتكرت التسمية، فقد كان الرومان يسمون كل مناطق شمال أفريقيا بالـ “مورز” أو السمر، فالـ “مورز” هم أصحاب البشرة السمراء أو الحنطية، ولأنهم أقل سواداً من باقي القارة السمراء.

ولم ينتشر اسم البربر بين الإسبان لوصف “الغزاة” السمر الذين أتوا من بلاد كان معظمها من البربر أو الأمازيغ، وقد جاءت تسمية البربر من الرومان الذين غزوا شمال أفريقيا قبل الميلاد بعقود قليلة، فهي من “باربا” BARBA باللاتينية وتعني اللحية، ومنها الحلاق بالإنجليزية BARBER، فقد وصف الرومان المقاومون الأشداء لهم بأصحاب اللحى، لأن معظمهم كانوا يربون لحى كثيفة.

إلا أن الكلمة أخذت بعداً وحشياً لا علاقة له بالأمازيغ أو الطوارق أو الشاوية أو القبايلية، وهي قوميات البربر الأربع الشهيرة، فقد صارت الكلمة تستخدم كناية عن الوحشية، فيقال “الغزو البربري” أو “الاحتلال الإسرائيلي البربري” أو العنف البربري الذي تمارسه أجهزة الأمن الإيرانية في قمع المحتجين، وهكذا.

تتقابل حول مضيق جبل طارق ثلاث مقاطعات متنازع عليها وتتمتع بالحكم الذاتي، جبل طارق التابع للتاج البريطاني وتطالب إسبانيا به، وسبتة ومليليه الواقعتان شمال المغرب وتطالب الأخيرة باستعادتها من إسبانيا، ولعل هذه المقاطعات الثلاث تكون محوراً لمقالات حول أسمائها وتاريخها بعد أن أقوم بزيارتها قريباً.

Back to top button