من “يشخص” هوية الرئيس اللبناني المقبل؟
بقلم: طوني فرنسيس

محاولة "حزب الله" تكرار تجربة 2016 تصطدم بانقلاب الموازين النيابية والطائفية

النشرة الدولية –

مر شهران على شغور منصب رئيس الجمهورية اللبنانية من دون أن يتمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس جديد، في تكرار حرفي لما جرى عشية انتخاب ميشال عون الرئيس المنتهية ولايته للتو.

حصل الشغور المتمادي في نهاية ولاية ميشال سليمان (2008-2014)، وكان سبقه شغور لمدة أقصر في نهاية عهد الرئيس الأسبق إميل لحود. في حينه قرر “حزب الله” تعيين عون رئيساً للجمهورية خلفاً لسليمان، واستمر في تعطيل المجلس النيابي عبر إفقاده النصاب المطلوب للانتخابات مدة تناهز السنتين والنصف، حتى تمكن في النهاية من فرض ممثله مرشحاً وحيداً، ووفر له نصاباً وتصويتاً جعلا صحيفة “كيهان” الناطقة باسم المرشد الإيراني تصدر في اليوم التالي مشيدة بالانتصار الإيراني في بيروت.

في الوضع الراهن، يحاول “حزب الله” تثبيت انتصاره الرئاسي في عام 2016، وجعله لازمة للعمل السياسي في لبنان. فالمواصفات التي تمتع بها عون لجهة الولاء الكامل لإيران يجب أن تتوفر في الرئيس الجديد، وإذا  لم يتحقق الإجماع على رئيس من هذا النوع، فلا مانع من إبقاء مركز السلطة الأول في لبنان شاغراً ولو إلى الأبد.

لم يحصل مثل ذلك في تاريخ الانتخابات الرئاسية اللبنانية. صحيح أن النظام السوري جاء بثلاثة رؤساء خلال فترة سيطرته على لبنان (1975 – 2005)، لكنه ” اختار” من بين المرشحين شخصيات مقبولة نسبياً لدى الوسط السياسي العام. كان إلياس سركيس أول هؤلاء (1976 – 1982)، وهو جاء من تيار الرئيس السابق فؤاد شهاب، وعمل طويلاً حاكماً للبنك المركزي، ثم رشحت سوريا إلياس الهراوي لخلافة أمين الجميل الذي انتخب خلفاً لشقيقه بشير الذي انتخب واغتيل في ظروف الاحتلال الإسرائيلي. كان الهراوي وجهاً معروفاً ومن رموز تجمع النواب الموارنة المستقلين، وهو لقاء نيابي بقي على الحياد في صراعات الميليشيات المسيحية ومعاركها، واستمر على تواصله مع النواب والعيادات الإسلامية. وعندما جيء بإميل لحود رئيساً، لم تغب اعتبارات مماثلة عن الحاكم السوري، فلحود قائد الجيش كان أيضاً ابناً لعائلة لها جذورها وأدوارها في الحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية.

مع خلافة الحزب المسلح والممول من إيران للدور السوري، وانهيار الوضع السوري الداخلي، وضع هذا الحزب يده على مفاصل السياسة والسلطة. كانت البداية في اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وما أعقبه من تصفيات طالت نواباً وشخصيات عامة، ومن ترهيب لآخرين، أشخاصاً ومجموعات. بتلك العمليات الإرهابية جرى إدخال لبنان في عصر جديد هو عصر انهيار الدولة بمؤسساتها وتشريعاتها، واستبدال القادة المنتخبين بموظفين يلبون حاجات الدويلة الطامحة إلى تعميم المثال الإيراني.

لم تكن مهمة إيصال رئيس مطواع في دورة 2016 أمراً مستحيلاً. لقد سهل انقسام المجلس النيابي إلى كتل كبيرة متقابلة، والمخاوف من اندلاع صدام سني- شيعي كانت بوادره تتراكم منذ سنوات، عملية فرض عون خياراً وحيداً. اليوم اختلف الأمر، فقد جاءت الانتخابات النيابية الأخيرة بعدد كبير من النواب الجدد لا ينتمون إلى معسكري 8 و14 مارس (آذار) التقليديين، وغاب التكتل السني الكبير الذي كان يقوده رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، الخصم التقليدي لـ”حزب الله”، وفي المقابل اتسعت الكتلة النيابية لحزب “القوات اللبنانية” المسيحية، وترسخت زعامة وليد جنبلاط مع حصوله على الحصة الحاسمة من تمثيل الطائفة الدرزية وإطاحته بحلفاء “حزب الله” الدروز.

وتميز المجلس النيابي بصعود مجموعة وازنة من النواب التغيريين، الذين دفعتهم النقمة الشعبية في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 إلى المقاعد النيابية. مع هؤلاء أتاح تشتت الكتلة السنية نشوء مساحة غامضة في البرلمان، وخلق سيولة نيابية يصعب التحكم بها.

تمكن “حزب الله” بالتهديد والترهيب، من جر الكتلة السنية بقيادة الحريري إلى دعم مرشحه في عام 2016، وأسهمت الخلافات والطموحات التقليدية في الوسط المسيحي، في توفير دعم إضافي لذلك المرشح وجعله رئيساً.

اليوم يحاول الحزب المذكور تكرار المحاولة في ظروف مختلفة وأزمة من دون نهاية يعيشها لبنان.

لم يطرح اسماً محدداً وإن كان يميل إلى تسمية من اعتبره حسن نصر الله أمينه العام يوماً عينه الأخرى (إلى جانب عون)، وقد اعتبر البعض عدم التسمية علناً إخفاء لمرشح فعلي آخر، فيما اعتبره آخرون سعياً دؤوباً لإفراغ مناصب الدولة اللبنانية من مضمونها بتعميم سياسة التعطيل وصولاً إلى لحظة فرض السطوة الكاملة.

لم يتحدث الحزب الذي يديره الولي الفقيه عن أشخاص وإنما وضع مواصفات يجب أن يتمتع بها الرئيس المقبل، خلاصتها “ألا يطعن المقاومة (أي حزب الله وإيران) في الظهر”. لم يستمع إلى أصوات اللبنانيين وقادة العالم، الذين يكررون تمسكهم بانتخاب رئيس وحكومة يعملان للإصلاح وإخراج البلاد من الحفرة، ويعيدان بناء الدولة ومؤسساتها الشرعية.

رد البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي ينتمي الرئيس، وفقاً للعرف ومبدأ تقاسم السلطة، إلى طائفته، على مطالب “حزب الله” بالقول: نريد رئيساً يحمي ظهر وطنه لا ظهر هذا الفريق أو ذاك.

ليس للبطريرك نواب ينتخبون ولا سلاح غير السلاح الروحي والمعنوي، إلا أن كلامه يعبر في العمق عن طموحات أغلبية اللبنانيين ويلتزمه نواب كثيرون، لا يثنيهم عن قول كلمتهم سوى التعطيل المتتالي لجلسات انتخاب الرئيس.

لكن شيئاً لم يتغير. ما زال الفراغ مرجحاً إلى أسابيع وأشهر طويلة، إذا ما استمر تشخيص مصلحة النظام اللبناني وكالةً حصرية بيد من يشخص مصلحة النظام الإيراني، وإذا  لم تجد الطوائف والأحزاب اللبنانية، خصوصاً المعنية بانتماء شخصية الرئيس، طائفياً ووطنياً، طريقة للخروج من المأزق عبر المجلس النيابي، الممر الإجباري الوحيد لتحديد من يكون رئيساً للدولة.

زر الذهاب إلى الأعلى