غنائية بيروت 2022 نشاط فني متواصل صيفا وشتاء
حراك فني يؤكد أن لا سبيل إلى اليأس والصمت في مواجهة الأوضاع الصعبة
النشرة الدولية –
العرب – ميموزا العراوي –
كان العام الجاري قاسيا على لبنان، لكنه لم يقتل الأمل في نفوس الفنانين التشكيليين ولا التزامهم بتنظيم معارض فردية أو جماعية تقدم معالجة للواقع ومآسيه وتبشر بمستقبل أفضل، تزدهر فيه الحياة الفنية والثقافية كما تتحول فيه الأوضاع العامة إلى الأفضل.
ما من أحد لا يعلم بأن لبنان منذ أكثر من ثلاث سنوات يرزح تحت موجة جديدة من الضغط المتواصل من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية. وليس من باب الشعر القول إن بيروت، قلب لبنان وعاصمته، مدينة أثبتت غنائيتها وأيضا “سرياليتها” إذا صح التعبير. فهي لا تعرف إلا أن تشعّ وتطرب تحت وقع الصواعق وكأن شيئا لم يكن. ربما مردّ ذلك نوع من تمرس البشر والحجر بشد الأحزمة وترطيب الجراح دون مداواتها والاعتياد على المبادرات الفردية الكثيرة في ظل غياب الدولة المدوي الذي لم يترك رصاصة إلا وأطلقها إلى قلبها، قلب بيروت.
ولعلّ الحياة الثقافية بشكل عام، والفنية بشكل خاص، التي تومض في حميمية البيوت والمقاهي ومفارق الشوارع التراثية المفتوحة على المطر والشمس على حد سواء وفي الصالات الفنية التي -وللمفارقة- تولد لترافق صالات مكرسة استطاعت الصمود لأن هذا بكل بساطة هو جلّ ما أبدعته.
من الصالات المكرسة نذكر “جانين ربيز” و”أجيال” و”أليس مغبغب”، ومن الصالات الحديثة جدا -ومنها ما ظهر بنشاطه وسط أزمات السنوات الثلاث التي ذكرناها آنفا- نذكر “ميسيون دي زارت” و”إل تي غاليري” و”ذي غاليري”.
تلك الصالات جميعها لم تفرق بين صيف وربيع ولا بين شتاء وخريف، واستمرت في العرض خارج التصنيف الدولي المتعارف عليه الذي يعتبر أن الصيف هو موسم ميت والخريف هو لإطلاق فعاليات السنة والشتاء هو زمن ذروة العرض الفني.
ليس هذا فحسب، بل إن بعض الصالات لم تعترف بموسم الأعياد كزمن لتعليق النشاط الفني وفتحت أبوابها لمحبي الفن طوال فترة الأعياد جاعلة من تلك الفترة مناسبة تحفيزية لاختيار واقتناء اللوحات من أجل تقديمها كهدايا.
ونذكر على سبيل المثال صالة “جانين ربيز” في معرض لها في آخر هذه السنة انطلقت فكرته ليس فقط من جعل الفن في متناول نظر الجميع، بل جعله في متناول قدرتهم المادية المحدودة أيضا. وقد عرضت مجموعة نسخ من الأعمال الفنية التي أنجزها فنانون معروف عنهم أن أعمالهم باهظة الثمن. أما هذه النسخ فليست عادية، لأنها أولا مطبوعة بتقنية عالية جدا على قماش ممتاز ومجهز لاستقبال هكذا طباعة، وثانيا لأنها نسخ تراعي إلى أقصى حدّ وضوح ودرجة الألوان المستخدمة في اللوحات الأصلية، وثالثا لأن كل نسخة تحمل توقيع الفنان الأصلي، صاحب اللوحة الأصلية.
كما أنه ما من أحد لا يعرف الأزمات المتجذرة التي يعيشها لبنان، كذلك الأمر ما من أحد لا يعرف أن الأنظار تلتفت في السنوات الأخيرة إلى دول ومدن أخرى أثبتت ذاتها على الساحة الفنية ونذكر منها دبي وقطر والقاهرة لاسيما في منطقة الزمالك التي ينمو فيها الفن التشكيلي زاخرا ومتألقا. غير أن بيروت حافظت على رونقها تشكيليا وأثبتت ذاتها مرجعا ومقرا واحتفالا بفنون وفناني المنطقة.
وشهدت هذه السنة قدوم فنانين مصريين وسوريين وتونسيين وفلسطينيين وعراقيين ليعرضوا آخر أعمالهم لأن بيروت -ولا مبالغة في القول- هي الوسام الذي يعلق على صدر كل فنان عربي يعي تماما مدى أهميتها بين المدن ويدرك أيضا أنها سوف تعود في أقصى تألقها مهما جار عليها الزمن وحكامها البغيضون.
وشهدت بيروت إقامة معارض جماعية وفردية على حد السواء لصيقة بنبض المدينة لتكون أشبه بأصابع الطبيب وهو يجس نبض المتوعك الذي يصارع المرض الذي ألم به. وعندما نقول معارض لصيقة بنبض المدينة فإن ذلك يعني أنها تجاري الأحداث عن كثب؛ معرض عن الهجرات ومعرض عن انفجار 4 أغسطس ومعرض عن العزلة ومعرض عن التراث البيروتي المهدد ومعرض عن معاناة المرأة ومعرض عن أزمة الهوية ومعارض أخرى واكبت أدنى طارئ وراسخ في الجوّ البيروتي.
وإذا كان ثمة حدث بارز في هذه السنة الفنية فهو الفن اللبناني الذي عاد بوتيرة عالية جدا بعد أن فتر في السنوات السابقة على حساب الفن السوري والعراقي.
وجاءت الأساليب الفنية على درجة عالية من الاحتراف والخصوصية. ربما يعود ذلك إلى “تخمّر” -إذا صح التعبير- التجارب اليومية والوجودية وخروجها إلى العلن بإبهار ملحوظ.
نذكر من المعارض معرض “تحولات” للفنان إيلي رزق الله، الذي لم يصور فيه الفنان اللبناني بنايات بيروت وخصوصياتها المعمارية، بقدر ما صورها مرآة عاكسة لحال أهلها، للتحولات المرهقة التي تصيبهم وأصابتهم منذ سنوات، وهي تحولات فجائية أظهرت بيروت مدينة تدور في فلك الانهيار وإعادة الخلق.
ونذكر أيضا معرض الفنانة اللبنانية ليلى داغر الذي جاء تحت عنوان “هروب”. والهروب الذي أرادت الفنانة اللبنانية أن تعبّر عنه هو هروب من الواقع المتأزم نحو سكون لم ترسمه الفنانة بألوان هادئة، وإنما بألوان معظمها حارة تحاكي منطق الدفء الروحي والهناء في كنف الذات بعيدا عن شرور العالم الخارجي المتمثل في الأزمات التي يعيشها لبنان، ولكن أيضا الخاصة بالعالم قاطبة.
أما معرض الفنان فادي شمعة الذي أطلق عليه عنوان “فقاعة”، فأدخل فيه الفنان الفقاعة إلى لوحاته بألوانها وشفافيتها لتحل محل رؤوس شخوصه وكأنها في مكانها العادي جدا. لا بل بدت، أي الفقاعات، وكأنها كانت حاضرة ها هنا منذ البداية وليست بديلا عن رؤوس أصحاب القمصان الحاضرة في لوحاته والمموجّة ببساطة رسم الأطفال. وكادت أنصاف الأجساد التي رسمها الفنان تكون مجرد مبرر ونقطة انطلاق لرؤوس هلامية تتفنن في تصاعدها في أفق اللوحات.
ومن الفنانين اللبنانيين الذين عرضوا خلال هذه السنة، الفنان شارل خوري الذي جاء معرضه تحت عنوان “ما وراء الحدود”. وبعد مرور أكثر من خمس وعشرين سنة على بداية مسيرته الفنية الحافلة بالمعارض التشكيلية الفردية قدم الفنان شارل خوري معرضا يمكن اعتباره محطة جديدة لم يتخل فيها البتّة عن كائناته البدائية والغرائبية التي سكنت لوحاته بداية بالمغاور العتيقة التي أنشأها الفنان بأسلوبه الخاص مُلتبسة وواضحة المعالم في آن واحد، ولاحقا في فضاء لم يخل من الإشارات والرموز التي حضرت سابقا في لوحاته.
ونذكر أيضا الفنان محمد شرف الذي نظم معرضا تحت عنوان “نوستالجيا الخريف”، وهو معرض جاء بعد غياب دام سنوات وتأجيل دام ستة أعوام بسبب الظروف التي عاشتها وتعيشها البلاد. لوحات الفنان تعبر عن خريف نجا من تهدج الزمن المعاصر؛ سكون وهناء لم يلوثه الألم.
وقد استطاع الفنان في معرضه أن يحمي وجدانه قدر المُستطاع من الفظاعة اليومية واستمر قادرا على الإصغاء إلى إنسانيته والانتصار لها رغم شدائد العالم المحيط، بداية بمدينته بعلبك التي أصابها كما أصاب جميع المدن اللبنانية تصدع عميق في بنيانها المعيشي والوجداني.
تتعدد الأسماء والتجارب الفنية المختلفة ولا مكان لذكرها كلها، وهي خير دليل على الحياة وتأكيد بصري وجداني، أقامه الفنانون اللبنانيون لذاتهم أولا وللآخرين ثانيا، على أن لا سبيل إلى اليأس وأن الطريق لا يحتمل النظر إلى الخلف. الأمر أشبه “بالحراثة الضوئية”، إذا كان ثمة عمل من هذا القبيل فبيروت أهل له أو هي أهل لابتكاره.