تباين كبير في التصورات حول التمييز العنصري مقابل التمييز ضد السود في العالم العربي
النشرة الدولية –
تثار الكثير من الانتقادات للمجتمعات العربية بشأن إدانة العنصرية في الغرب واستنكارها، بينما يتعامل الناس مع هذه الظاهرة في بلادهم أو في المنطقة العربية عموما بالكثير من التجاهل واللامبالاة.
ورغم أن الدراسات والبحوث المتعلقة بهذا الموضوع قليلة في المنطقة العربية، فقد خلص تقرير حديث عن التمييز العنصري ومعاداة السود في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى أن غالبية مواطني المنطقة لا يعترفون بأن التمييز ضد السود يمثل “مشكلة” في بلدانهم. ويرى معظم مواطني المنطقة أن التمييز على أساس اللون “لا يمثل أي مشكلة” ببلدانهم، بحسب تقرير مركز الباروميتر العربي.
ويعرّف الباروميتر العربي التمييز ضد السود بأنه شكل من أشكال العنصرية المهيكلة والممنهجة ويمثل تحيزا ضد الأفراد السود من أصول أفريقية، فيما يعرف “معاداة السود” بصفتها السلوكيات السلبية والعدائية تجاه السود أو الأفراد داكني البشرة.
وفي دول العراق والأردن والسودان ولبنان ليبيا والأراضي الفلسطينية جاءت نسبة المواطنين الذين اعتبروا التمييز العنصري مشكلة، أكبر من نسبة المواطنين الذين يعتبرون التمييز ضد الأفراد السود مشكلة.
وبلغت نسبة المواطنين الذين أفادوا بمشكلة التمييز 31 في المئة في العراق. ويوضح الباروميتر العربي أن في العراق ثمة تقديرات بوجود مليوني عراقي من ذوي البشرة السمراء. ويتوزعون في عموم مناطق البلاد، خصوصًا في المدن الجنوبية، وبالذات في البصرة.
ويتعرض هؤلاء إلى “تاريخ طويل من التهميش والقمع”، كما يواجهون في الوقت الحالي جملة من التحديات مثل ارتفاع معدلات الأمية والفقر المدقع والغياب شبه الكامل للتمثيل السياسي.
ويبدو أن صعوبة الحصول على فرص عمل هي أبرز ما يواجهونه، سواء كان العمل في القطاع العام أو الخاص. وهذا ما واجهته على سبيل المثال الشابة زهراء حميد (25 عامًا) من مدينة البصرة، فهي تكافح منذ سنوات للحصول على وظيفة تساعدها على تحمل الأوضاع الاقتصادية الصعبة وتأمين حياتها وحياة أسرتها.
وقالت زهراء في تقرير نشرته دويتشه فيله “حقًا فرص العمل غير متكافئة للجميع، نحن آخر من يُفكر بتوظيفنا والسبب واضح، هو لون بشرتنا الأسمر. يؤدي هذا التمييز بشعوري أننا مواطنون من الدرجة الثانية ولسنا عراقيين، وأننا أقل أهمية من بقية أفراد المجتمع. أشعر بذلك من خلال تجولي بين الشركات والمحال التجارية بحثًا عن فرصة العمل، أقل ما أفعله هو الانسحاب وترك التقديم على العمل”.
وكشفت نتائج تقرير الباروميتر العربي التي تأتي على خلفية استطلاع رأي شمل تسع دول، أنه في تونس فقط تبين الأغلبية أن التمييز العنصري والتمييز ضد السود يمثلان مشكلة، في حين تنخفض النسب بباقي الدول التي شملها التقرير إلى أقل من 50 في المئة. ويرجع المركز، وهو شبكة بحثية مستقلة، وعي التونسيين بخصوص المسألة إلى أدوار المجتمع المدني الذي يقوم بحملات توعية مهمة ضد الميز العنصري، وإلى كون تونس أول بلد عربي يقر قانونا لتجريم التمييز العنصري.
وفي عام 2018 أقرت تونس القانون الذي يجرّم التمييز العنصري للتصدي للتنمر الذي يتعرض له أبناء البلاد من أصحاب البشرة الداكنة والأفارقة، بعد تحرك منظمات المجتمع المدني بهذا الخصوص. وطالبت عدة مؤسسات من المجتمع المدني، من أبرزها جمعية “منامتي” المناهضة للعنصرية منذ ثورة 2011 بإقرار قانون يجّرم العنصرية في تونس.
وكان عشرات من الطلبة الأفارقة قد نظموا مظاهرة وسط العاصمة التونسية في عام 2016 للمطالبة بتجريم العنصرية وتوفير الحماية الأمنية لهم في البلاد، عقب تعرض فتاتين تحملان الجنسية الكونغولية لاعتداء. وتم بالفعل إحراز تقدم مؤخراً في هذا الشأن في البلاد، ويرجع الفضل في معظم هذا التقدم إلى التحول الديمقراطي الذي تشهده البلاد. فقد مهدت الديمقراطية في تونس الطريق أمام منظمات المجتمع المدني لتعمل بحرية، وهو ما سمح بتنظيم احتشاد قوي لمواجهة العنصرية ضد السود.
بالمقابل تقول غالبية الدول العربية إنه لا حاجة لإصدار قوانين لمكافحة العنصرية لأن جميع مواطنيها سواسية وفقاً للدساتير المحلية. لكن في تونس كان لتشكيل الجمعيات وحرية الحياة النقابية دور كبير في تسهيل خروج جمعية “منامتي” إلى الضوء في عام 2012، والتي برزت بوصفها منظمة رئيسية ومؤثرة في مكافحة العنصرية ضد السود.
وقادت الجمعية المعركة التي نتج عنها سن قانون مناهضة التمييز العنصري رقم 50. وقد مثّل المحاميان التابعان للجمعية حمدان دالي وكريم دالي في قضيتها التي تم بمقتضاها حذف لفظ “عتيق” رسمياً من وثائق الهوية الوطنية الخاصة بهم (شهادات الميلاد). وبموجب القانون تكلّف الدولة بانتهاج سياسات للوقاية من ممارسات التمييز العنصري. ومن هذا المنطلق، دعا المجتمع المدني إلى تصوير أصحاب البشرة السمراء على نحو إيجابي أكثر في وسائل الإعلام، وزيادة تمثيلهم في المؤسسات التعليمية ومواقع صنع القرار.
كما ظهرت في تونس حركةٌ تندّد بالتمييز العنصريّ والجنسانيّ ضد النساء السوداوات. وتطالب بمزيدٍ من الحضورٍ العلنيّ في المجال العام وبتفكيك النزعة الاستعماريّة لخطاب الحركة النسويّة التونسيّة. وفي هذا الصدد تقول المحامية والناشطة خولة كسيكسي إنَّها تحلم برؤية صور لأطفال سود أيضًا في الكتب المدرسية وبحصول التونسيين السود على مناصب رفيعة في الدولة والمحاكم.
وسجلت مصر أقل نسبة من المواطنين الذين صرحوا أن التمييز العنصري والتمييز ضد السود يمثلان مشكلة حيث تراوحت النسب بين 6 و8 في المئة، على الرغم من أن السكان السود في مصر يواجهون تاريخا طويلا من القمع والتهميش.
وفي عام 2019، أثار مقطع فيديو الغضب في مصر. وقد أظهر المقطع المتداول صبيا مصريا يدعى سيد حسن وصديقه وهما يعترضان طريق طالب أفريقي ويحاولان الاستيلاء على حقيبته المدرسية، وسط قهقهة صديقهما الثالث الذي كان يصور الواقعة. وانبرى الشاب المصري في تقليد لهجة المراهق الأفريقي، الذي اتضح لاحقا أنه يدعى جون مانوث وينحدر من جنوب السودان.
أما في السودان فقد ثارت قضية العنصرية في السنوات الأخيرة بسبب شتيمة عنصرية بثت على الهواء مباشرة على التلفزيون السوداني خلال محاكمة الرئيس السابق عمر البشير. وكان أعضاء فريق الدفاع عن البشير يتجاذبون أطراف الحديث في ما بينهم في قاعة المحكمة بالعاصمة الخرطوم، ولم يدركوا أن ميكروفوناتهم لا تزال مفتوحة، عندما استخدم أحدهم لفظا عنصريا مسيئا ضد الصحافي لقمان أحمد الذي أُقيل من منصب مدير الإذاعة والتلفزيون الحكومي.
وكان قد تم تعيين لقمان أحمد الذي ينحدر من دارفور في هذا المنصب عندما كان تحالف مدني وعسكري يتقاسم السلطة بعد الإطاحة بالبشير. وهناك اعتقاد راسخ أن عنصرية نخبة العاصمة الخرطوم لعبت دورا في الاضطرابات التي شهدتها البلاد عبر التاريخ. ولقد دفع ذلك في نهاية المطاف جنوب السودان إلى الاستقلال فضلاً عن إشعال عمليات تمرد ضد التهميش الذي يتعرض له أبناء دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وهي مناطق تضم جميعها عددًا كبيرًا من السكان غير العرب.
وقد انتشر مقطع المحامي على نطاق واسع وسارع الكثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي إلى التنديد بالإهانة العنصرية التي وجهت للقمان أحمد. وأعاد ذلك إلى الأذهان أحد شعارات انتفاضة 2019 عندما كان يهتف الثوار “يا عنصري ومغرور، البلد كله دارفور”. وكانت هذه الهتافات موجهة للبشير الذي وصل إلى السلطة في عام 1989 في انقلاب عسكري دعمه الإسلاميون وتلطخت سمعة نظامه في جميع أنحاء العالم بسبب الصراع في دارفور. وقد اتهمته المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في دارفور.
لبنان أيضا الذي اعتبر 4 في المئة من مواطنيه أن العنصرية ضد السود مشكلة، فيما احتل المركز الثاني عالميا والأول عربيا في التمييز العنصري، يواجه فيه أصحاب البشرة السوداء صعوبات جمة، فقد نشرت زينب مريم كنعان وهي صحافية لبنانية ولكن أمها من سيراليون في شهر يونيو 2020 وفي ذروة احتجاجات حياة السود مهمة، تقريرًا على صفحتها في فيسبوك حول تجاربها الخاصة أعربت فيه عن تضامنها مع احتجاجات السود في الولايات المتَّحدة، ووصفت فيه التمييز الذي تعرَّضت له منذ طفولتها.
تعاطف مع الغرب في لبنان
وكتبت كنعان أنَّها اندهشت من رؤيتها كيف يعبِّر اللبنانيون عن تعاطفهم مع السود في الولايات المتَّحدة بينما يقفون مكتوفي الأيدي حيال العنصرية في بلدهم. وتبرز المعطيات المتعلقة بالمغرب بدورها وسط الاستطلاع بالنظر إلى كون نسبة المواطنين الذين يقرون بوجود التمييز ضد السود (43 في المئة) أعلى من نسبة من يرون أن التمييز العنصري يمثل مشكلة (37 في المئة). ويورد التقرير أن الأفراد السود في المغرب عانوا من تاريخ طويل من العنصرية، ويرجع هذا إلى ماضي استرقاق الأفارقة السود بالمغرب.
وأكد التقرير الجديد للباروميتر العربي وجود وعي وفهم في المغرب لدرجة انتشار التمييز ضد السود، عكس معظم الدول العربية. وأشار إلى أن المغرب يعد نقطة عبور للمهاجرين واللاجئين الساعين للوصول إلى الملاذ الآمن في أوروبا، ولقد نفذ جملة من التدابير التي استهدفت “إخراج” التعامل مع هؤلاء الأفراد بعيداً عن الاتحاد الأوروبي، بالاستعانة بالمساعدات الاقتصادية والسياسية من الاتحاد كوسيلة لردع هؤلاء المهاجرين عن شواطئ أوروبا. فحتى 2021، يقول التقرير “كان هناك نحو 700 ألف مهاجر من أفريقيا جنوب الصحراء يعيشون في المغرب، وأغلبهم يقيمون بالمدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط وطنجة، لكن هذه التدابير تزيد من تعرض المهاجرين لجملة من الانتهاكات”.
ويظهر من نتائج التقرير أنه عندما يفكر المواطنون في دول المنطقة التي شملها الاستطلاع في التمييز العنصري، فهم يميزونه عن ملف التمييز ضد السود. ويعتبر التقرير أن هذا التباين في الفهم يمكن أن يفسر بالاختلاف اللغوي التأويلي، كما أن النتائج المتوصل إليها يمكن أن تؤكد فكرة اختلاف النظرة إلى العرق بشكل جذري في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقارنة بالولايات المتحدة مثلا.
ويشير إلى أن التباين الكبير في التصورات حول التمييز العنصري مقابل التمييز ضد السود، يمكن أن يكون أيضا بسبب ثقافة الصمت في المنطقة، أو رفض الخوض في مناقشات حول تاريخ العبودية والاسترقاق، أو الاستعداد للإقرار بمعاداة السود في الوقت الحاضر. كما يمكن أن يفسر كذلك بغياب الوعي بالتاريخ المطول للاسترقاق في المنطقة، إضافة إلى حقيقة الحاضر الذي تدخل فيه هذه النقاشات في خانة التابوهات.