مخرجات تونسيات رسّخن أفلامهن بلا حجاب حضور قوي كمؤثثة للأفلام

النشرة الدولية –

العرب – حنان مبروك –

“كل ما تحتاجه لإنتاج فيلم جيد، هو مسدس وفتاة جميلة”. تختصر هذه المقولة للمخرج الفرنسي الشهير جان لوك غودار أحد مؤسسي ما عُرف بـ”الموجة الفرنسية الجديدة” في الستينات جزءا كبيرا وواقعيا من حال السينما العربية والغربية. ويمكن تقبل هذه المقولة في سياق المزاح الطريف، أو حتى كتبسيط لمفهوم الفن السينمائي، لكنها لو أخذت حرفيا فهي فاقدة تماما للوجاهة وخاصة إذا ما أسقطناها على السينما التونسية، فهي لم تسر منذ بداياتها نحو سجن المرأة في خانة الممثلة الجميلة، التي تستعرض مفاتنها على الشاشة دون هدف يذكر.

هذه الأيام، تحتفي تونس بمئوية السينما التونسية، التي تعود أولى تجاربها مكتملة النضوج إلى العام 1922 حين أنجز رائد السينما التونسية المخرج ألبير شمامة شيكلي أول فيلم له بعنوان “زُهرة” وفيه يصور عادات وتقاليد القبائل التونسية عبر نسائها اللواتي استقبلن شابة فرنسية نجت بأعجوبة من غرق سفينة لتقيم بينهن فترة من الزمن وتكتشف طبيعة عيشهن وآلامهن وآمالهن والعادات والتقاليد التي تنظم حياتهن.

حضرت المرأة في هذا الفيلم بتفاصيلها الواقعية، بملبسها ولهجتها وانتمائها وأمنياتها وسلوكياتها اليومية. هن نساء يشبهننا في تونس، ورغم التطور الزمني ومرور مئة عام على صدور الفيلم إلا أن القبائل والمناطق الريفية ما تزال في الكثير منها تشبه أولئك اللواتي حملهن ألبير شمامة إلى عالمه السينمائي.

وخلال العشرينات من القرن الماضي ظلت المرأة التونسية غائبة عن لعب أدوار واضحة وصريحة في الأفلام، بل تحضر كشخصية ثانوية، حيث اختار ألبير شمامة شيكلي أن تكون ابنته هايدي بطلة أفلامه (زهرة / عين الغزال / فتاة قرطاج)، ويسهل فهم سبب ذلك بالنظر إلى المجتمع المنغلق والمحافظ وغير المتعلم الذي لم يكن من السهل حينها أن يتقبل عالم السينما والتلفزيون الغريب والعجيب والسماح لبناته ونسائه بالظهور عليه وهن يمثلن شرف العائلة والقبيلة.

وسرعان ما أصبحت السينما من مقوّمات المشهد الثقافي في تونس منذ الثلاثينات وخصوصا بعد أن أصبح الإنتاج السينمائي وإنشاء القاعات السينمائية تجارة مزدهرة انتقلت من العاصمة والمدن الكبرى إلى مختلف مناطق البلاد التونسية، أين أنشئ عدد من قاعات السينما وعرضت فيها أفلام أجنبية وعربية (تحديدا مصرية).

ورغم حضورها القوي كمؤثثة للأفلام، وشخصية رئيسية فيها، إلا أن المرأة ظلت لسنوات طويلة بعيدة عن العمل في الفن السابع، كتقنية أو مخرجة، وانحصر دورها في بعض النساء المتمردات على القيود الأسرية اللواتي اتبعن حلمهن في أن يصبحن ممثلات.

ومع بداية السبعينات من القرن الماضي بدأت السينما التونسية تسجل حضورا نسويا يعد رائدا مغاربيا وعربيا، وربما يعود ذلك إلى التيار العام الذي سارت فيه الدولة بأكملها والتي كانت تعد حديثة الاستقلال آنذاك وما تزال في طور بناء أسسها الكبرى، تحت قيادة مؤسس الجمهورية الأولى الحبيب بورقيبة الذي عرف بدعمه لتحرير المرأة، حتى أنه في الحادثة الشهيرة التي أقدم فيها على نزع أغطية رؤوس النساء كان يقول وهو ينزع أغطية الرأس عن بعض النساء “انظري إلى الدنيا من غير حجاب”.

والمخرجات التونسيات، رغم قلتهن، منذ أسسن مشروعهن السينمائي الخاص كن ولا يزلن أسماء قليلة مقارنة بمن يسجلن حضورهن بفيلم أو اثنين ثم يغبن عن الساحة، نظرن بالفعل إلى المواضيع التي طرحنها في أفلامهن “من غير حجاب” وكانت بعض أعمالهن جريئة ومجددة حتى أنهن صرن من أعلام الفن السابع في تونس والعالم العربي.

وتعد مفيدة التلاتلي (1947 – 2021) واحدة من أبرز المخرجات، التي لا يمثل دخولها إلى المجال تحدّيا للمجتمع الذكوري فقط بل أيضا تحديا لعائلتها المحافظة. فبعد دراستها بأحد أشهر معاهد السينما بفرنسا في اختصاص التركيب اشتغلت مع مجموعة من أهمّ سينمائيي تونس والعالم العربي، ثم خاضت تجاربها الذاتية التي سارت عكس التيار، فهي لم تحقق النجاح الباهر بعد تراكم التجربة وإنما حقق ذلك فيلمها الروائي الطويل الأول “صمت القصور” (1994) والذي حازت به جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي والتانيت الذهبي في أيام قرطاج السينمائية، ثم صنف من بين أفضل مئة فيلم في السينما العربية.

كسر الفيلم الصورة النمطية عن المرأة في السينما التونسية، وكان بمثابة إعلان عن ولادة نجمة في السينما التونسية هي مفيدة التلاتلي، لكنه قدم نجمة في التمثيل هي هند صبري التي صارت اليوم إحدى أيقونات السينما المحلية وحتى العربية، وهي مدافعة شرسة أيضا عن تحرير المرأة.

ويصف أستاذ السينما والأدب الفرنسي الهادي خليل في كتابه “من مدونة السينما التونسية: رؤى وتحاليل” الراحلة مفيدة التلاتلي بأنها “عنصر أساسي في سينما المؤلف التواقة إلى نبرة خاصة بها وتوقيع منعتق من المسالك المعهودة”

ومن الأسماء المهمة الأخرى في الإخراج السينمائي تأتي سلمى بكار، التي بدأت أولى تجاربها في الإخراج منذ العام 1975 بفيلم بعنوان “فاطمة”، ثم خاضت مجال الإنتاج لتكون منذ العام 1990 أول منتجة تونسية للأفلام السينمائية.

وتوالت التجارب النسائية، ولا يمكننا هنا ذكرها جميعا، وفي حركة الإنتاج الحالية يمكن التطرق إلى تجربة كوثر بن هنية التي تعد واحدة من أشهر المخرجات التونسيات، وتعود بداياتها إلى العام 2004 مع الفيلم القصير “الخرق” إلى أن أخرجت في العام 2020 فيلم “الرجل الذي باع ظهره” فكان نقلة نوعية في مسيرتها، ونال عددا من الجوائز ورشح لجائزة الأوسكار، ومنذ ذلك الحين تشغل بن هنية عضوية لجان تحكيم في أشهر المهرجانات السينمائية ومنها مهرجان القاهرة السينمائي وغيره.

وواجهت السينما التونسية منذ تسعينات القرن الماضي اتهامات بأنها سينما نمطية وأسيرة مواضيع معينة في أغلبها سير ذاتية وتتحرك في فضاءات خاصة، واتهم البعض السينما بأنها شديدة الانفصال عن الواقع التونسي وتقدم صورة موغلة في الإباحية أو المأساوية والخيال وربما أيضا المثالية، وتتهم أغلب الأعمال بأنها لم تنقل صورة شبيهة بواقع المرأة المثقفة والمسؤولة والحرة دون تشدد يمينا أو يسارا، لكن موجة السينما الجديدة وسينما الشباب بعد ثورة يناير 2011 جاءت لتكسر تلك الصورة النمطية وتعيد الجمهور النافر إلى صالات العرض.

ونقلت بعض الأفلام صورة قريبة من واقع المرأة التونسية وخصوصا المرأة من المدن الداخلية التي ظلت لعقود بعيدة عن الفن السابع هي وكل القضايا المتعلقة بها. ومن هذه الأفلام فيلم “تحت الشجرة” لأريج السحيري التي تعد اسما واعدا في الإخراج السينمائي، وصورت بكاميرتها حياة سكان الريف التونسي والعاملات في القطاع الزراعي، وحظي فيلمها الأول بإشادة العديد من النقاد.

وبين النساء الريفيات اللواتي صورهن ألبير شمامة شيكلي وشبيهاتهن اللواتي صورتهن أريج السحيري خاضت السينما التونسية طوال قرن بأكمله تحديات كبيرة لتثبت نفسها كإنتاج قوي وتعرف بالمشاغل المحلية للجمهور العربي والغربي، لكن المرأة وإن حققت حضورا كبيرا في السينما وكل الفنون الأخرى لا يزال حضورها قليلا، لا يسلط عليه الضوء كما يجب، حتى أن المكتبة التونسية تشكو من قلة المؤلفات التي تتناول بالدرس والتوثيق والتحليل التجارب السينمائية النسائية. لكن عموما، وكما قال الهادي خليل فإن “السينما التونسية مدينة بالكثير للنساء ولدقتهن الفنية”.

زر الذهاب إلى الأعلى