بايدن ليس أيزنهاور.. ونتنياهو ليس بن غوريون
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
هذه هي المرة الثانية في تاريخ المسألة الفلسطينية، التي تجد فيها إسرائيل نفسها بمواجهة طلب أمريكي، مسموعٍ حقيقي ومرفوق بلغة تهديد واضحة، بأن تنسحب من أرض عربية محتلة.
الأولى كانت، العام 1956، بعد حرب السويس؛ فيها أجبر الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن غوريون على الانسحاب من سيناء المصرية.
والثانية هي التي نشهدها الآن في موقف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وهو يطلب من حكومة نتنياهو الائتلافية 4 قضايا تتصل بالحقوق الفلسطينية في الدولة والأرض والسكان والقدس، ويريد جوابًا على طلبه.
نتنياهو ليس بن غوريون الذي كان انصاع، العام 1956، لرسالة تقريع وتهديد وصلته، يوم 8 نوفمبر، من أيزنهاور، فانسحب سريعًا من سيناء، ثم إن بايدن ليس أيزنهاور، وأنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي الحالي، ليس جون فوستر دالاس، وزير الخارجية آنذاك.
نُذُر هذه المواجهة الراهنة بدأت تتجمع، خلال الأسابيع القليلة الماضية، بتصريحات غير مسبوقة للرئيس بايدن يحذّر فيها حكومة الائتلاف الإسرائيلية، قبل أن تتشكل، وبلغة لم يسمعها منه نتنياهو من قبل، ويريد إجابات عنها خلال الشهر الحالي.
قبل أن يبعث بايدن إلى القدس، في النصف الثاني من الشهر الحالي، مستشاره للأمن القومي متبوعًا بوزير خارجيته، كان أنشأ إدارة خاصة للتواصل مع الفلسطينيين مقرها سفارته في القدس.
وزاد بايدن على ذلك بأن أحجم عن استخدام كامل نفوذه لمنع الأمم المتحدة من إقرار توصية لمحكمة العدل الدولية لكي توثّق بطلان الاحتلال، وإلزام اسرائيل بتنفيذ قرار مجلس الأمن 242 الذي يعتبر الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية، مناطق محتلة استحق تنفيذ الانسحاب منها.
وفي التصويت بالجمعية العامة للأمم المتحدة، اعترضت أمريكا على القرار لكنها لم تستخدم قوتها وهيمنتها في لجم المبادرة من بدايتها.. هو أسلوب معروف في لعبة الأمم لتمرير بعض القضايا الحرجة بأقل قدر من المحارشة العلنية.
وفي المرتين، 1956 و2023، يتكرر مشهدٌ في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لا لبس فيه، تقول فيه واشنطن لتل أبيب: عليكم تنفيذ القرارات الدولية لأننا (ربما) لا نستطيع حمايتكم.
المشهد يتكرر بفاصل زمني 67 سنة، تغيّرت فيها ليس فقط أسماء اللاعبين والمشاركين والمشجعين، بل أيضًا تغيرت حدود الطاولة أو المسرح، وكذلك مكونات النظامين العالمي والإقليمي من الدول التي تشارك أساسًا في اللعبة، أو تنتظر الفرصة للتدخل لتغيير قواعدها.
هذا ليس تكبيرًا أو تصغيرًا للذي بدأ، يوم أمس، باقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير للمسجد الأقصى، وحذّر منه بشدة الرئيس الأمريكي، ووزير خارجيته، وسفيره في إسرائيل، وحملّوا جميعهم بنيامين نتنياهو مسؤوليته النهائية كرئيس للحكومة.
لكن.. نتنياهو ليس بن غوريون الذي كان انصاع، العام 1956، لرسالة تقريع وتهديد وصلته، يوم 8 نوفمبر، من أيزنهاور، فانسحب سريعًا من سيناء، ثم إن بايدن ليس أيزنهاور، وأنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي الحالي، ليس جون فوستر دالاس، وزير الخارجية آنذاك. وهذه فروقات نوعية في مواقع القيادة تؤخذ بالحسبان الأكيد أثناء قراءة المشهد الراهن المتحرك.
نص الرسالة التي كان بعثها بن غوريون، العام 1956، في الانصياع لطلب أيزنهاور الانسحاب الإسرائيلي من سيناء، (وهي الرسالة التي أفرجت عنها الوثائق الأمريكية)، يمكن لمفرداتها أن تُلوّن صورة المقارنة مع الأزمة الحالية بين بايدن ونتنياهو.
كما أن اللهجة والنبرة يمكن أن توسّعا مساحة التكهّن والمخيلة السياسية التي تقتضيها “لعبة الأمم”، وهي اللعبة الشرق أوسطية التي كان عرضها مايلز كوبلاند، عميد المخابرات الأمريكية في الإقليم خلال العقدين اللذين أعقبا الحرب العالمية الثانية.
مباشرةً بعد قرار للأمم المتحدة، في 2 نوفمبر 1956، كان ألزم إسرائيل بالانسحاب من سيناء، ورفضه بن غوريون أمام الكنيست، تسلّم بن غوريون رسالة تقريع من أيزنهاور، جاء فيها: ” لو صحّت التقارير التي تصلنا عن رفضكم الانسحاب.. سيكون من دواعي أسفي أن تضطرنا سياسة إسرائيل إلى اتخاذ موقف يؤثر في التعاون الودّي القائم بيننا”.
بن غوريون التقط مدى جديّة التهديد، فردّ برسالة انصياع تقول: “ستجدون إسرائيل مستعدة للقيام بدورها المتواضع إلى جانب الولايات المتحدة من أجل تعزيز العدل وتوثيق السلام”.
نفّذ تعهده بانسحاب تبيّن لاحقًا أنه لم يكن ليمنع حرب 1967 التي أعادت فيها إسرائيل احتلال سيناء، ومعها غزة، والضفة والقدس الغربية، ومرتفعات الجولان السورية.
واليوم، يتكرر المشهد، لكن بين نتنياهو وبايدن، بكل المعروف عن كليهما من تفاوت في الخصال القيادية، ومن فروقات نوعية كثيرة أخرى في توصيف كل منهما للعبة الأمم الراهنة، وهي التي يصحّ الاجتهاد بتسميتها معركة “القدس وأكنافها”، كونها في الجغرافيا السياسية الراهنة، تستوعب المسألة الفلسطينية.
الموضوع بالنسبة لإسرائيل مسألة قياس التكاليف، فوضى خلافة عباس أو عنفُ انتفاضة يتم احتواؤها في الضفة وغزة، قد تكونا بالنسبة لنتنياهو أبواب هربٍ محتملة لشراء الوقت.
يوم أمس الثلاثاء، استهلّت حكومة نتنياهو معركة “القدس وأكنافها” بكامل المواصفات التي تتهيأ لها إدارة بايدن، باقتحام بن غفير للمسجد الأقصى.
سبقته على امتداد 2022 جبهة ساخنة صامتة اشتكت فيها الكنائس المسيحية العالمية (بمن فيها الروسية التي هي الحليف السياسي الأكبر للرئيس فلاديمير بوتين في حرب أوكرانيا)، وأعلنت هذه الكنائس العالمية في مناسبتين متتاليتين رفضها للجور والمخاتلة الإسرائيلية في التضييق على الكنائس والاستحواذ على أراضيها الوقفية، وفي السياسات الموصولة بتهجير المسيحيين وتفريغ القدس وأكنافها منهم، بحيث تقلصت نسبتهم من إجمالي السكان إلى 2% فقط.
الاقتحام اليهودي للمُقدّس الإسلامي، مرفوقًا بحراك أممي للكنائس المسيحية، يشكلان معًا الجانب الديني من معركة “القدس وأكنافها”، كما هي في خلفيات وثنايا المواجهة التي انفتحت بين شخصي وإدارتي بايدن ونتنياهو.
والمواجهة موضوعها السياسي هو الشرعية الغائبة عن احتلالٍ أسبغت عليه حكومة الائتلاف الإسرائيلي الجديدة طابع وبرنامج الضم والتهويد خلافًا للقرارات الدولية.
وفي المقابل، مطلبٌ أمريكي تسنده الدول العربية والإسلامية، والكنائس المسيحية النافذة في عشرات دول العالم، يرفض تغيير الستاتيسكو (الوضع القائم) في المجمّع الديني في القدس الشرقية، ويطلب إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي كان وصفه بوتين، العام الماضي، بأنه “الأطول في التاريخ الحديث”.
خلال النصف الثاني من الشهر الحالي، سيكون مطلوبًا من نتنياهو وهو يستقبل مستشار الأمن القومي، ثم وزير الخارجية الأمريكيين، أن يجيب بشيء تريد واشنطن أن يكون مماثلًا لما كان أجاب به بن غوريون على رسالة الرئيس الأمريكي أيزنهاور بالانصياع وقبول مبدأ الانسحاب والتفاوض.
مثل هذا الجواب الذي تريده واشنطن، يعني بالضرورة تفخيخ حكومة الائتلاف الإسرائيلية، وانسحاب غلاة المتطرفين منها وسقوطها، وهي مسألة تجافي الطبع الشخصي لنتنياهو وطموحاته في أن يأخذ مكانًا خاصًا في التاريخ الإسرائيلي ينفذ فيه النهج الذي يفتخر أنه ورثه عن أبيه.
في قواعد لعبة الأمم أن مأزقًا كهذا يتمثل في خيار مأزوم ينحشر فيه نتنياهو بين نهاية تاريخه الشخصي وبين التمرد الانتحاري على واشنطن، فإن هناك بابًا يظل مفتوحًا للهرب والمماطلة وشراء الوقت.. أقرب أشكال باب الهرب وأقلها كلفة، هو تصنيع أو تفجير قضية لها أوراق جاهزة، ثم تكبيرها ودحرجتها لتصبح مشكلة إقليمية ودولية عابرة للحدود، لكي تستهلك ما بقي من عمر ولاية بايدن.
مثلاً: تصنيع فوضى شاملة في الضفة الغربية مصحوبة بعنف الاحتراب على خلافة الرئيس محمود عباس؛ هذا الخيار المسموم موضوع جاهز شهد، خلال الشهرين الماضيين، تحشيدًا إعلاميًا وتسريبًا للوثائق، يكفي لتبرير المباشرة فيه والبناء عليه.
سيناريو آخر جرى التحذير منه قبل أيام، وهو أن تُصعّد الإدارة المدنية الإسرائيلية الجديدة للضفة من تصرفاتها الاستفزازية والدموية، وهي التي أخذت مكان العسكريين في هذه المهمة، فتدفع الشباب الفلسطيني لانتفاضة ثالثة يرى فيها نتنياهو كلفة -عليه وعلى الدولة -أقل من كلفة الانصياع لمطالب بايدن في وقف الاستيطان وضم الأراضي، وفي الدخول مع السلطة الفلسطينية بمفاوضات الحل النهائي المحكومة سلفًا للانسحاب إلى حدود متفق عليها.
الموضوع بهذه الحدود والمعطيات هو بالنسبة لإسرائيل مسألة قياس التكاليف. فوضى خلافة عباس أو عنفُ انتفاضة يتم احتواؤه في الضفة وغزة، قد يكونان بالنسبة لنتنياهو أبواب هربٍ محتملة لشراء الوقت، كون ذلك سيستهلك فترة العامين المقبلين المتبقيين لبايدن في البيت الأبيض، وهي تقريبًا نفس المدة التي تحتاجها محكمة العدل الدولية للبدء في تنفيذ توصية الجمعية العامة للأمم المتحدة النظر في شرعية الاحتلال الإسرائيلي، وما قد يعقب ذلك من تجديد المفاوضات بخصوص حل الدولتين وبدائله التي يُقال إنها الآن قيد التداول المكتوم..
هي لعبةُ أمم جديدة بالنسبة لنتنياهو محكومة لحساب التكاليف.