تونس ترمّم ذاكرة الزمن
يمينة حمدي

النشرة الدولية

العرب –

تحلو لي مشاهدة أفلام الأبيض والأسود بين الحين والآخر، وفي كل مرة أراها بعيون مختلفة ومن زوايا أخرى، إذ سبق لي أن شاهدت بعض أفلام عبدالحليم حافظ وشادية وسعاد حسني وفريد الأطرش وأسمهان وإسماعيل ياسين وغيرهم من نجوم “هوليوود الشرق” في دور السينما التونسية، وأيضا على شاشات التلفزيون، وبعدها على جهاز الفيديو والأقراص الرقمية، والآن أصبحت معظم هذه الأفلام تزهو بالألوان ومحملة على أجهزة الاستقبال الرقمي المخصصة للتلفزيونات الذكية، وبإمكاننا الاختيار بين آلاف الأفلام، من دون أن نبرح منازلنا أو نضيع الكثير من الوقت في التنقل عبر الشاشات.

النبأ السار أن المستقبل الذي سأتمكن فيه من مشاهدة الأفلام الكلاسيكية التونسية لم يعد بعيدًا بعد أن ظهرت في البلاد بوادر لخطط تونسية تهدف إلى رقمنة أفلامها الكلاسيكية وحفظ ذاكرة تراثها وإزالة كل العوائق، التي تقف في طريق تجاربها السينمائية الأولى، التي تعود إلى قرن من الزمن، ولكنها لم تحظ بالحفظ والترميم كما حظيت بهما الأفلام المصرية القديمة.

بلا شك سأشعر بشغف مثل أي تونسي عندما تتاح له من جديد مشاهدة فيلم “الفَجْر”، وهو أول فيلم طويل بعد الاستقلال، من إخراج عمار الخليفي عام 1966. والخليفي كان من أبرز رواد السينما التونسية، وأخرج أيضا فيلم “المتمرد” عام 1968، ثم “الفلاقة” عام 1970 وفاز بالجائزة الذهبية في مهرجان موسكو السينمائي الدولي سنة 1971.

أجيال بأكملها من التونسيين لم تتسن لها مثلا مشاهدة فيلم “أمي تراكي” 1972، للمخرج عبدالرزاق همامي. وأنا متأكدة من أن التجربة الحالية لترميم الأفلام القديمة ستكون فرصة رائعة لهذه الأجيال. وكلما زادت خيارات هذه الأفلام، فإن معظمنا سيختار على الأرجح الأفلام التي هي جزء من “مؤونته” الذهنية والثقافية والعاطفية، وهذا الشعور يعرفه تماما الكثيرون ممن غمرت تفاصيل بعض الأفلام الكلاسيكية ذاكرتهم بقوة فجأة، وأحيت الكثير من الأحداث ذات المغزى في حياتهم، وحفزتهم على مشاهدتها مرارا وتكرارا.

أدهشني تعلق بعض أقاربي وأصدقائي بهذا النوع من الأفلام، واحتفاظه بأهميته في ثقافتنا الشعبية، حتى لكأنه أشبه بوطن نعيش فيه كما يعيش فينا.

بالنسبة إلي شخصيا، فإن السبب الذي حدا بي إلى مشاهدة الأفلام الكلاسيكية هو ذلك الحنين إلى الماضي، ولاسيما إلى فترات معينة من حياتي، راودتني فيها مشاعر مختلفة عن تلك التي أشعر بها في الوقت الحاضر، إضافة إلى أن الكثير من التجارب السينمائية تروق لي كما لغيري العودة إليها، لاكتشافها والغوص في نهر زمنها الذي خلدته الرقمنة وجعلته عصيا على الموت والزوال.

تبدو معظم الأفلام الكلاسيكية في نسخها المرقمة حديثا، كما لو أنها جزء لا يتجزأ من وعي الأفراد والشعوب بوجودهم الشخصي والحضاري والثقافي، المتعدي لزمن بعينه. واسترجاع أزمنة السينما وتحريك حقبها والسيطرة عليها ببراعة وسلاسة، لم يكن متاحا في عصر ما قبل الرقمنة. لكن في ضوء التطورات التكنولوجية وبزوغ فجر الذكاء الاصطناعي، خرجت صناعة السينما من برجها العاجي لتستقر بين قبضة الجماهير، ونفضت الكثير من الدول الغبار عن بعض أرشيف أفلامها وتراثها وإبداعاتها السينمائية، بعد أن بقيت لسنوات حبيسة جدران الأرشيف والأدراج المتهالكة والمهملة.

في العالم العربي أدركت الكثير من الدول، وإن كان ذلك بشكل متأخر، أن صناعة السينما هي جزء جوهري من حروب الثقافات العالمية، وهي سلاح غير تقليدي وضروري، لفرض قيمها وتراثها ومعتقداتها وممارساتها، والانتصار الحقيقي بالنسبة إلى أي دولة لا يكون إلا بمسايرة ركب التطور العلمي، والمشاركة بفاعلية في الثورة الفنية والإبداعية، وإتاحة الأرشيف السينمائي والفني والثقافي للمجتمع، وللجماهير العالمية.

زر الذهاب إلى الأعلى