رسومات “شارلي إيبدو” أنعشت المحتجين وأغضبت النظام الإيراني
طهران تغلق المعهد الفرنسي للبحوث وباريس تتمسك بحرية التعبير
النشرة الدولية –
اندبندنت عربية –
تقتحم صحيفة “شارلي إيبدو” الفرنسية بين الفترة الزمنية والأخرى، الإعلام والصحافة عبر مواقفها وآرائها الساخرة، ربما كي يبقى اسمها متداولاً.
تلك المجلة التي ذاع صيتها بسبب رسوماتها الكاريكاتورية الساخرة اللاذعة والمثيرة، حصدت تعاطف الملايين حول العالم، إضافة إلى المساعدات المادية التي تدفقت عليها، عبر حملة التضامن الواسعة “أنا شارلي” (Je suis Charlie)، بعد الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له في مقرها بباريس في 7 يناير (كانون الثاني) 2015، وأسفر الهجوم عن مقتل 12 شخصاً وإصابة 11 آخرين، حيث دخل المسلحون مبنى الصحيفة وشرعوا بإطلاق النار من أسلحة كلاشنكوف.
#MullahsGetOut | Le 8 décembre, nous lancions un concours de caricatures du Guide suprême de la République islamique d’Iran. Un mois plus tard et après plus de 300 dessins reçus (ainsi que des milliers de menaces), voici notre sélection de gagnants ! https://t.co/oZ9T3Ri0v9
— Charlie Hebdo (@Charlie_Hebdo_) January 4, 2023
وما لبث أن ظهر تسجيل مصور تبنى فيه تنظيم “القاعدة” العملية. وقال فيه المتحدث باسم التنظيم إن العملية تمت بأمر زعيم “القاعدة” حينها أيمن الظواهري. وتلا الهجوم مقتل أربعة رهائن في احتجاز محطة المترو “بورت دو فانسان”، وشخص في حادثة إطلاق النار في مونروج. قامت في فرنسا إثر ذلك مسيرات تحت اسم “مسيرة الجمهورية” مدعومة بمسيرات في مدن عدة حول العالم. وأصبحت تلك المسيرة الأكبر في تاريخ فرنسا، حيث ناهز عدد المشاركين فيها ثلاثة ملايين و700 ألف شخص، منهم نحو مليونين في باريس وحدها، كما شارك في مسيرة باريس نحو 50 من قادة العالم.
“شارلي إيبدو” و”السخرية من الأديان”
“شارلي إيبدو” أو “شارلي الأسبوعية” صحيفة ساخرة أسبوعية تصدر في باريس، وتشكل الرسوم والتقارير والمهاترات والنكات موضوعاتها الأساسية، وتتهم منشوراتها بأنها غير وقورة و”تافهة” وغير ملتزمة ومثيرة للجدل واستفزازية في معظم الأحيان. تعرف الصحيفة عن نفسها بأنها يسارية التوجه وتنشر مقالات عن اليمين المتطرف والكاثوليكية والإسلام واليهودية والسياسة والثقافة وغير ذلك. كانت بداياتها ما بين أعوام 1969 و1981، ثم توقفت وأعيدت مرة أخرى في عام 1992. ويشار إلى أن ستيفان تشاربونيير كان رئيس تحريرها منذ عام 2012 حتى مقتله في حادثة الهجوم في 2015. وعلى رغم الاعتداءات التي طاولتها وقضت على عدد من هيئة تحريرها، فإنها بقيت تؤكد تمسكها بـ”السخرية من الأديان”. وتتهم منشورات المجلة بـ”العنصرية”، وهي داومت لسنوات طويلة على نشر رسومات مسيئة للنبي محمد.
الرسوم المسيئة التي بلغت 12 صورة كاريكاتورية نشرت في صحيفة “يولاندس بوستن” الدنماركية في 30 سبتمبر (أيلول) 2005، وبعد أقل من أسبوعين وفي 10 يناير 2006 قامت الصحيفة النرويجية “ماغازينيت” والصحيفة الألمانية “دي فيلت” والصحيفة الفرنسية “فرانس سوار”، وصحف أخرى في أوروبا بإعادة نشر تلك الصور الكاريكاتورية، التي أشعلت موجة غضب في الشارع الإسلامي.
وتم إحراق سفارتي الدنمارك والنرويج في العاصمة السورية دمشق في 4 فبراير (شباط) 2006، كما أحرق متظاهرون القنصلية الدنماركية في بيروت 5 فبراير من العام نفسه. وتفاعلت دول عدة مع حملة مقاطعة المنتجات الدنماركية. وإضافة إلى هذه الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية، تضمنت الصفحة الأولى من صحيفة “شارلي إيبدو” كذلك تحت عنوان “كل ذلك من أجل هذا” رسماً كاريكاتورياً للنبي محمد بقلم رسام الكاريكاتير جان كابو، الذي قتل في هجوم 7 يناير 2015. وكانت “شارلي إيبدو” قد عاودت نشر رسوم تسخر من النبي محمد، مع بدء محاكمة مشاركين مزعومين في الهجوم الذي تعرضت له في عام 2015.
“حرية التعبير”
تلك “الرسوم المسيئة” التي اعتبرت مستفزة لمشاعر ملياري مسلم حول العالم، دافع عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باعتبارها “حرية رأي”، كما اعتبر كثيرون من صناع الرأي في فرنسا أن ما قامت به المجلة الساخرة يقع تحت عنوان “حرية التعبير”. غير أن العديد من النقاد والكتاب وأصحاب الرأي في أوروبا كتبوا أن “الإساءة إلى حرية المعتقد جريمة، كما هي جريمة الإساءة إلى كرامة الأفراد في أوروبا، أو قوانين الاتهام بمعاداة السامية”. ومن بين هؤلاء قال الكاتب في صحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية توني باربر حينها “حسبنا القول إن بعضاً من المنطق السليم سيكون مجدياً لصحف مثل شارلي إيبدو وإيلاند بوستن الدنماركية التي ينم محتواها عن توجيه ضربة للحرية عندما تستفز المسلمين، لكنها في حقيقة الأمر غبية تماماً”. يذكر أن الرسوم ظهرت لأول مرة في صحيفة دنماركية في عام 2005 ثم عاودت “شارلي إيبدو” نشرها عام 2006، الأمر الذي دفع متشددين على الإنترنت إلى تحذير المجلة من أنها ستدفع ثمن سخريتها. واعتبر المسلمون أن رسماً يظهر عمامة النبي على شكل قنبلة وصم لجميع المسلمين بالإرهاب، وتم اللجوء إلى مقاضاة الصحيفة من قبل جماعات إسلامية في فرنسا، إلا أن المحكمة الفرنسية قضت عام 2007 برفض تهمة أن نشر الرسوم يحرض على كراهية المسلمين. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2020 أقدم لاجئ شيشاني على قطع عنق مدرس التاريخ والتربية المدنية الفرنسي صامويل باتي لعرضه رسماً كاريكاتورياً للنبي محمد خلال درس عن حرية التعبير. وتتهم المجلة بأنها تتعمد انتقاد الدين الإسلامي والرموز الإسلامية، دون غيرها من المعتقدات الدينية، لكن عند مراجعة منشوراتها يظهر أنها لا تميز بين دين وآخر أو دولة وأخرى، حتى إنها سخرت من الدولة الفرنسية نفسها، بعد حادثة التحطم الدامي لمروحيتي الجيش الفرنسي في مالي، التي أودت بحياة 13 جندياً فرنسياً. وفي هذا يقول لوران سوريسو، رئيس التحرير المعروف بـ”ريس” إن “على صحيفتنا أن تبقى وفية لروحها الساخرة، وأحياناً الاستفزازية، كما أنها توجه انتقادات لمختلف الأديان والرموز الدينية”. وفي 7 ديسمبر (كانون الأول) 2011 نشرت “شارلي إيبدو” رسماً كاريكاتورياً عن قصة “العشاء الأخير” للمسيح المذكورة في الإنجيل. وفي عام 2014 أصدرت الصحيفة عدداً خاصاً عن قصة ولادة المسيح، وهو العدد الذي تسبب في انتقادات واسعة للمجلة من قبل متدينين. كذلك سخرت المجلة من المحرقة اليهودية، عندما نشرت رسماً بعنوان “تصوير فيلم الهولوكوست”، إلى جانب عدد من الإصدارات التي تضمنت سخرية من السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، حيث نشرت رسوماً تشكك في مبررات إسرائيل لقتل الفلسطينيين.
Par #Biche pic.twitter.com/TgD6CWCdIK
— Charlie Hebdo (@Charlie_Hebdo_) January 5, 2023
“شارلي إيبدو” تدخل على خط الاحتجاجات الإيرانية
وعلى خط الاحتجاجات الإيرانية المتواصلة منذ 16 سبتمبر (أيلول) 2022 بعد مقتل الشابة الكردية مهسا أميني بعد توقيفها من قبل شرطة الأخلاق بحجة عدم التزامها قواعد اللباس الصارمة التي تفرضها إيران، تضامنت “شارلي إيبدو” مع المحتجين بنشرها في عدد خاص أكثر من 30 رسماً كاريكاتورياً تنتقد المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي، وتركز في مجملها على واقع النساء الإيرانيات، وتحديهن السلطة السياسية والدينية التي يمثلها المرشد. الإصدار الخاص جاء وحسب ما أعلنت المجلة “لدعم الإيرانيين الذين يناضلون من أجل حريتهم”، وفي إطار مسابقة أطلقتها في ديسمبر الماضي لإعداد رسوم كاريكاتورية. وكان رئيس التحرير سوريسو قد أوضح أن ذلك “كان طريقة لإظهار دعمنا للرجال والنساء الإيرانيين الذين يخاطرون بحياتهم للدفاع عن حريتهم ضد النظام الديني الذي يضطهدهم منذ عام 1979”. وتصور الرسوم المرشد، الذي يعتبر الشخصية الأعلى في إيران، وهو يواجه من قبل النساء والفتيات، ففي إحدى اللوحات تبدو الصدمة على ملامحه فيما تشعل فتاة صغيرة النار في لحيته، وفي أخرى تطارده فتاة من دون غطاء للرأس وهي تمتطي حصاناً فيما يفر هو مذعوراً، وكذلك أظهرت بعض الرسوم خامنئي وهو يتعرض للشنق بشعر النساء المحتجات.
السلطات الإيرانية تغضب وتهدد
وأثارت الرسومات التي طالت خامنئي غضب السلطات في طهران، التي اعتبرتها مهينة، وحذرت من “رد حاسم”. وتوعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في تغريدة له على موقع “تويتر”، بأن “العمل المهين وغير اللائق الذي بادرت إليه مجلة فرنسية ضد المرجعية السياسية والدينية لن يمر من دون رد حاسم وفعال”. وأضاف “لن نسمح للحكومة الفرنسية بتجاوز حدودها. لقد اختاروا طريقاً خاطئاً بالتأكيد”، كما استدعت الخارجية الإيرانية السفير الفرنسي في طهران نيكولا روش على خلفية “السلوك المسيء لإحدى الصحف الفرنسية”. وأبلغ الناطق باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، روش خلال اللقاء، “احتجاج إيران الشديد على الحكومة الفرنسية”، مؤكداً أن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تقبل إطلاقاً بالإساءة إلى المقدسات ومبادئها الإسلامية والمذهبية والوطنية”.
وهدد كنعاني بتحميل الحكومة الفرنسية المسؤولية في شأن التداعيات المترتبة على هذا “السلوك البغيض”. وأضاف أن “الجمهورية الإيرانية لا تقبل إهانة مقدساتها الإسلامية والدينية والقيم الوطنية بأي شكل من الأشكال، وفرنسا ليس لها الحق في تبرير إهانة مقدسات الدول والشعوب الإسلامية الأخرى بحجة حرية التعبير”، وفق وكالة “إرنا” للأنباء. كما أشار كنعاني إلى “السجل الأسود للمجلة الفرنسية في مهاجمة النبي محمد والقرآن الكريم ودين الإسلام”. وقال إن “إيران تحتفظ بالحق في الرد بشكل متناسب على هذه التصرفات، وإنها تنتظر تفسيراً من الحكومة الفرنسية وإدانة السلوك غير المقبول للمجلة الفرنسية”.
من جانبه، قال السفير الفرنسي إنه سينقل على الفور احتجاج طهران للسلطات الفرنسية، وفق البيان.
وأعلنت وزارة الخارجية الإيرانية في بيان أن “الجمهورية الإسلامية تندد بعدم تحرك السلطات الفرنسية المعنية المتواصل في مواجهة معاداة الإسلام والترويج للكراهية العنصرية في الإعلام الفرنسي”.
إغلاق المعهد الفرنسي للبحوث
وكانت الخارجية الإيرانية أعلنت “وضع حد لنشاطات المعهد الفرنسي للبحوث” (إفري) في إيران “كمرحلة أولى” من الرد الإيراني على الرسوم الكاريكاتورية، في 5 يناير الحالي. وبحسب موقع المعهد الفرنسي الإلكتروني، فهو ملحق بوزارة الخارجية الفرنسية، أبصر النور في عام 1983 بعد اندماج “البعثة الأثرية الفرنسية في إيران” (دافي) التي أنشئت في عام 1897، والمعهد الفرنسي لعلوم إيران في طهران (إفيت) الذي أسسه هنري كوربان في عام 1947. وبقي المعهد الفرنسي للبحوث الواقع في وسط طهران مغلقاً لسنوات، وقد أعيد فتحه خلال عهد الرئيس السابق حسن روحاني (2013-2021) كعلامة على عودة الدفء إلى العلاقات بين طهران وباريس. ويضم المعهد مكتبة غنية يستخدمها طلاب اللغة الفرنسية وأكاديميون إيرانيون.
فرنسا ترد “إيران لا تعرف معنى حرية الصحافة”
وفي مقابلة مع محطة “أل سي إي” التلفزيونية الفرنسية، قالت وزير الخارجية كاثرين كولونا “إن على إيران أن تهتم بما يحدث داخلها قبل أن تنتقد فرنسا”. وتابعت أن “إيران تنتهج سياسات سيئة عبر اتباع العنف مع مواطنيها وباعتقال فرنسيين”. وأضافت “دعونا نتذكر أن حرية الصحافة موجودة في فرنسا على عكس ما يحدث في إيران وأن تلك (الحرية) يشرف عليها قاض في إطار قضاء مستقل وهو أمر لا تعرفه إيران جيداً بلا شك”، مضيفة أن فرنسا ليست بها قوانين تجرم التجديف.
كذلك رأت الوزيرة الفرنسية السابقة والنائبة في البرلمان الأوروبي ناتالي لوازو أن رد الفعل الإيراني “محاولة للتدخل” في شؤون “شارلي إيبدو” و”تهديد” للصحيفة. وقالت “ليكن الأمر واضحاً، النظام القمعي الديني في طهران لا يسعه أن يملي دروساً على فرنسا”. ودائماً ما ترفض فرنسا الاحتجاجات الرسمية على ما تنشره المجلة، وتجدد التزامها “الثابت” حرية الصحافة والتعبير، والذي تدرج ما تنشره “شارلي إيبدو” ضمنه.
وتقول السلطات الفرنسية إن هناك سبعة فرنسيين معتقلين في إيران بينهم المدرسة والنقابية سيسيل كولر وشريكها جاك باري. وإلى جانب الأخيرين اللذين أوقفا بتهمة التجسس، مطلع مايو (أيار) الماضي عندما كانا في زيارة سياحية لإيران، هناك الباحثة الفرنسية الإيرانية فريبا عادلخاه التي أوقفت في يونيو (حزيران) 2019 ثم حكم عليها بالسجن خمس سنوات إثر إدانتها بالمساس بالأمن القومي الإيراني، وهناك أيضاً بنجامان بريير الذي أوقف في مايو 2020 وحكم عليه بالسجن ثماني سنوات وثمانية أشهر بعد إدانته بتهمة التجسس.
وكانت وزيرة الخارجية الفرنسية كولونا قد طالبت نظيرها عبد اللهيان، بـ”الإفراج الفوري” عن “الرهائن” الفرنسيين المحتجزين لدى إيران، واحترام “الحقوق المدنية والسياسية” في هذا البلد، و”وقف تدخل” طهران في شؤون دول الجوار. وفي حديث لصحيفة “لو باريزيان” الفرنسية، قالت كولونا “نطالب بالإفراج الفوري عنهم، وحصولهم على الحماية القنصلية، أي حق الزيارة القنصلية لمواطنينا”، ثم كشفت عن “تعهد نظيري الإيراني، الذي أجريت معه محادثة طويلة وصعبة، باحترام حق الوصول إلى ذلك الحق. أنا في انتظار حدوث ذلك”. يذكر أن الخارجية الفرنسية دعت في أكتوبر الماضي، مواطنيها الذين “يزورون إيران إلى مغادرة البلاد في أقرب الآجال نظراً إلى أخطار الاعتقال التعسفي التي يعرضون أنفسهم لها”. وتتهم منظمات غير حكومية إيران بممارسة “دبلوماسية الرهائن” على الساحة الدولية.