القصة داخل القصة
بقلم: مصطفى أبو لبدة

إرم نيوز –

لم تشأ، وربما لم تستطع إدارة بنيامين نتنياهو لحكومة الائتلاف الإسرائيلية، أن تُخفي توجسها الثقيل من اختيار يائيل لامبرت سفيرة أمريكية جديدة في عمّان، وهي الشخصية الثانية في البيروقراطية السياسية الأمريكية الخاصة بالشرق الأوسط، خزان أسراره وحجر الزاوية لهذا القسم في مجلس الأمن القومي الأمريكي، على امتداد عقد ونيّف من الزمن.

طبيعي أن تثير مثل هذه الخطوة الأمريكية الاستثنائية في توقيتها ومرفقاتها، هواجس نتنياهو وهو يرى المرأة التي لها تاريخ موصوف في عدم الارتياح السياسي لها، باتت الآن تقيم على مسافة 70 كليو مترا (ساعة واحدة بالسيارة) من مقر إقامته الرسمية ببيت هاتاسي في حيّ الطالبية في القدس.

قرار بايدن بترشيح يائيل لامبرت سفيرة له في الأردن، وقد أعلنه يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي وأحاله إلى مجلس الشيوخ لمناقشة دواعيه، هو من سوية الأخبار التي تحمل “قصة داخل القصة”.

لامبرت ستكون بعد اليوم موكلة أيضا ورسميا بالمشاريع الإقليمية البراغماتية التي تقوم على قاعدة التعايش، أو التي تتحسب لما يمكن أن تشهده الضفة وغزة من فوضى عنفية تندلق على المنطقة.

فهي الخبير السياسي الأول والمزمن في مجلس الأمن القومي الأمريكي بشأن الشرق الأوسط، بين القلائل عابري حدود الأجندات الحزبية لثلاث إدارات متعاقبة، أوباما وترامب وبايدن.

رصيدها شهاداتُ احتراف حتى من الذين يخالفونها الرأي، ثم إنها لم تعيَّن في مهمتها الجديدة كترضية تقاعد، كونها لم تصل سن الخمسين، ومازالت تحمل من ملفات المسألة الفلسطينية ومشاريع الخرائط الإقليمية المتغيرة، ما يُغري بالبحث عن ظلال الحملة الإعلامية الإسرائيلية عليها.

كلاهما نتنياهو ومستشاره الأقرب المكلف بحلقة الاتصال مع واشنطن، رون دريمر، قيل إنهما يقفان وراء فيض المواقف والتقارير الأمريكية والإسرائيلية التي نُشرت خلال الأسابيع القليلة الماضية، متضمنّةَ التحشيد والتحرر تجاه اختيار لامبرت لتكون “المفاعل الدبلوماسي” للسياسة الأمريكية في المنطقة بالمرحلة القادمة، وهي المرحلة الموسومة بالتوتر القابل للتفجير، تحت مختلف التوصيفات السياسية والعنصرية والدينية.

تؤرّق المسؤولين الإسرائيليين في قراءتهم لغةَ لامبرت ونبرتها، معرفتهم أنها وثيقة وموثوقة لدى الرئيس بايدن، حتى وهي تهدد بإجراءات عقابية ضد الحلفاء من الدرجة الأولى، قصتها معروفة عندما كلفها بايدن في حزيران 2021، وهي تمثل إداراته في لندن، بترتيب ملف اجتماعه مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في مدينة كورنوال، كان الاجتماع ذا طابع تاريخي يستهدف مناقشة وتجديد اتفاق ميثاق الأطلسي الذي كان عقده ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت لتقنين شراكة البلدين لما بعد الحرب العالمية الثانية.

يومها سربت صحيفة “التايمز” اللندنية معلومات تقول إن يائيل لامبرت استخدمت لغة غير دبلوماسية في تقريع جونسون بشأن تداعيات بريكزت وضرورات أن يجري حل المشكلة الإيرلندية حسب ما هو متفق عليه.

شيء مماثل لما استجد على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بعد تشكيل حكومة نتنياهو الائتلافية من تغيير في الخطوط الحمر وفي توصيف الأمر الواقع.

قيل يومها في موضوع تعامل لامبرت مع رئيس الوزراء البريطاني إن اللغة التي استخدمتها كانت توبيخا دبلوماسيا مخصصا في العادة للدول المعادية وليس الحلفاء، شيء مماثل للذي يجري الآن بين إدارتي بايدن ونتنياهو في موضوع الإخلال بالاتفاقيات الناظمة للقدس والمقدسات والاستيطان، وضمّ الأراضي.

هذا مع ملاحظة أن لامبرت ستكون بعد اليوم موكلة أيضا ورسميا بالمشاريع الإقليمية البراغماتية التي تقوم على قاعدة التعايش، أو التي تتحسب لما يمكن أن تشهده الضفة وغزة من فوضى عنفية تندلق على المنطقة، جراء تبديل قواعد اللعب تنفيذا لبرنامج الحكومة الائتلافية، أو في مرحلة انتقال السلطة في رام الله، ووضع ملف النووي الإيراني على الرف.

كلتاهما بريطانيا وإسرائيل حلفاء من الدرجة الأولى للولايات المتحدة، لكن هذا التحالف لا يمنع التوبيخ والتهديد عندما يقتضي الأمر وتستحق المصلحة الأمريكية، وهو ما كان اشتكى منه نتنياهو أثناء المفاوضات مع مبعوثي دونالد ترامب على تفاصيل ما سمّي بـ”صفقة القرن”.

كانت يائيل لامبرت دينامو الوفد الأمريكي، وتمنحها ديانتها اليهودية حصانة إضافية في قسوة انتقادها طروحات نتنياهو ورفض تشطره الذي تباهى به لاحقاً في كتاب مذكراته وسيرة حياته.

ثم إن أحدا في إسرائيل أو في الولايات المتحدة لا ينسى أن يائيل لامبرت التي لا تتردد في رفض وتخطئة نتنياهو، هي نفسها التي كانت في مجلس الأمن القومي الأمريكي بالدورة الثانية من رئاسة أوباما، مسؤولة عن ترتيب مذكرة التفاهم لمنح إسرائيل 38 مليار دولار على مدى 10 سنوات، وهي أكبر منحة عسكرية في تاريخ العلاقات بين البلدين.

كان الهدف الحقيقي من تلك الصفقة، ضمان أن لا يشتط نتنياهو ومن سيخلفه، في البحث عن أدوار وعلاقات مع روسيا والصين خارج نطاق التبعية للولايات المتحدة، وهو الهدف الوسيع الذي تجري عليه الآن جولات متعاقبة من المشادات الحادة بين واشنطن وتل أبيب، وستتولى فيه لامبرت بعد الآن وظيفة ما يشبه المندوب السامي الأمريكي في الشرق الأوسط.

تعرف لاميرت الشخصيات الفلسطينية عندما كانت نائبة للقنصل الأمريكي في القدس عام 2014، هم أنفسهم مازالوا في مبنى المحافظة برام الله، لأن القيادات الفلسطينية تعمّر طويلا في السلطة.

في التفاصيل الملفتة للسيرة الوظيفية للامبرت أن عملها الدبلوماسي في الشرق الأوسط أتاح لها طوال العقدين الماضيين أن تكون قريبة أو داخلة في الصورة الحرجة للعواصم التي شهدت تغييرات جامحة. قبل شهرين من حرب العراق، التحقت بمجلس الأمن القومي الأمريكي في وحدة المساعدة الإنسانية والإعمار، ومباشرة بعد الحرب تسلمت منصب ضابط الحوكمة (الشفافية) في سلطة الائتلاف التي حكمت العراق مؤقتا، حيث يُنسب لها الفضل الوظيفي في أنها كشفت عن أكبر سرقة في التاريخ، إذ اختفت من العراق 8 مليارات دولار من مساعدات برنامج الإعمار.

ولذلك يقال حتى اليوم إن لامبرت هي الأرشيف الحيّ للفساد الأسطوري الذي أصاب العراق وتسرّب للمنطقة، ولأسماء المشمولين به ممن تجددوا على مدار العقدين الماضيين.

شهدت لامبرت وهي في العراق اعتقال وإعدام الرئيس صدام حسين، قبل أن تنتقل (2004) إلى منصب مدير مكتب العراق في مجلس الأمن القومي الأمريكي في واشنطن.

كانت مسؤولة عن مكتب إسرائيل و فلسطين في مجلس الأمن القومي الأمريكي عام 2004 عندما توفي الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مسموما.

تعرف تماما كل الشخصيات الفلسطينية عندما كانت نائبة للقنصل الأمريكي في القدس عام 2014، هم أنفسهم مازالوا في مبنى المحافظة في رام الله، لأن القيادات الفلسطينية تعمّر طويلا في السلطة.

وكانت موجودة في القاهرة من 2006–2009 مسؤولة عن وحدة الشؤون الداخلية في السفارة في الفترة التي شهدت الجدل حول خلافة الرئيس حسني مبارك، وهناك تزوجت من دبلوماسي إيطالي وانتقلا معا إلى ليبيا ليعمل كلّ منهما في سفارة بلاده في طرابلس. كانت موجودة في ليبيا عندما سقط نظام القذافي، وقُتل.

حتى وقت قريب، كان الدبلوماسيون البريطانيون، والأوروبيون عموماً، يصفون في مجالسهم الخاصة نظراءهم الأمريكيين في الشرق الأوسط بأنهم مازالوا هواة، لا يفهمون المنطقة على حقيقتها رغم أنهم ورثوها من الاستعمار البريطاني والفرنسي منذ ستة عقود، لكن مثل هذه السيرة الوظيفية للسيدة لامبرت، تشي قطعا بخلاف ذلك: تصنع القصة، والقصة داخل القصة.

زر الذهاب إلى الأعلى