نواب لبنانيون يحاولون تشريع قانون موحد للأحوال الشخصية

كيف سيمر القانون في دولة تصرف للمؤسسات الدينية موازنات تفوق بعض الوزارات؟

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية –

من اللافت أن النظام اللبناني ومنذ نشأته حرص على احترام المحاصصة بين الطوائف، والمصالح الدينية التابعة لها وللمذاهب المنبثقة عنها. من هنا تتصاعد جدلية قانون موحد للأحوال الشخصية وتخبو، تبعاً لأهواء السياسيين ومصالح “ملوك الطوائف” التقليديين.

وبات الحديث عن الزواج المدني في البلد عرضة لهجوم وانتقادات وصولاً إلى حد التكفير، وخلق انقسام بين اللبنانيين، هذا ما حصل مع ثلاثة من النواب “التغييريين”، مايو (أيار) الماضي، بعد أن طرح عليهم سؤالاً موحداً في أحد البرامج التلفزيونية حول من يؤيد منهم الزواج المدني، والنواب الذي رفعوا أيديهم، يمثلون الطائفة السنية، إبراهيم منيمنة ووضاح الصادق، إضافة إلى النائبة حليمة قعقور.

جاء الرد سريعاً على موقفهم هذا، وسرعان ما شهدت مواقع التواصل هجوماً على الزواج المدني وكل من يؤيده من النواب، وتخطى الهجوم تغريدات الناشطين، وصولاً إلى بعض من شيوخ السنة حيث انتشرت لهم فيديوهات وهم يهددون فيها بشن حرب على كل من يفكر بإقرار القانون، بخاصة النواب السنة.

وفي شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قدم تسعة نواب هم بولا يعقوبيان، وسامي الجميل، وجورج عقيص، وميشال الدويهي، وفريد البستاني، ومارك ضو، وفراس حمدان، وبلال عبد الله، وإلياس جرادة، اقتراح قانون موحداً للأحوال الشخصية بالتعاون مع منظمة “كفى”، في مؤتمر صحافي عقدوه في مجلس النواب.

قالت النائبة يعقوبيان التي سبق لها أن تزوجت من مسلم، “قدمنا ككتل نيابية قانوناً موحداً للأحوال الشخصية، شعب واحد يكون لديه قانون واحد، هذا الأمر في لبنان أصبح مهماً جداً أكثر من أي وقت مضى”. وأضافت، “نحن نعرف أن هناك تنوعاً مذهبياً وطائفياً في لبنان، وهذا القانون لا يمنع بأي شكل من الأشكال العودة إلى المحاكم الروحية الموجودة، لكنه يلزم اللبنانيين جميعاً بقانون واحد، لذلك لم يكن اختيارياً وإنما هو إلزامي”.

من جهته قال النائب عقيص، “الاقتراح المقدم لا علاقة له بالسياسة ولا بالدين، له علاقة بالمواطنة. وأحذر من شيطنة هذا القانون، نحن لا نستفز أحداً، هذا الاقتراح هو لعصرنة حياة المواطن ولتسهيل حياته ونحن لسنا أول دولة عربية تخطو في هذا الاتجاه”.

أما النائب الجميل المتزوج من مسلمة فاعتبر أن “الاقتراح يهدف إلى عصرنة حياتنا الاجتماعية باتجاه المساواة الحقيقية”. وقال: “منذ أكثر من 50 سنة تقدم حزب الكتائب بقانون الزواج المدني، واليوم نجدد عهدنا ومشروعنا الذي التزمنا به تجاه اللبنانيين بهذا القانون الذي لا يأخذ البلد نحو المواطنة الحقيقية فحسب إنما يحمي النساء والرجال والأطفال من الإساءة”.

وكان من اللافت في تقديم اقتراح القانون عدم مشاركة أي نائب مسلم سني أو شيعي في المؤتمر، بل اقتصر على نواب مسيحيين ودروز من “تكتل التغيير”.

بين مد وجزر

جرت أول محاولة لإرساء قانون أحوال شخصية مدني، على عهد الرئيس الراحل إلياس الهراوي، وهو الذي قدم للموضوع بنفسه عام 1998. ووجه الأمر حينها بردود فعل عنيفة، فبعد أن وافق مجلس الوزراء على المشروع، اضطر رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري إلى عدم تحويل القانون إلى مجلس النواب، بعد معارضة جميع المرجعيات الروحية، واشتعال طرابلس بأعمال عنف وتظاهرات.

ونصت المادة التاسعة من القانون اللبناني على أن “حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على ألا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، وهي تضمن أيضاً للمواطنين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية”.

وبهذه المادة أعطى الدستور الحق للطوائف بتنظيم أحوالها الشخصية، واضعاً بذلك كل من يحمل الجنسية اللبنانية في قبضة رجال الدين. والجدير ذكره أن السلطات اللبنانية تعترف بالزواج المدني المنعقد خارج أراضيها، ويدون في السجلات المدنية، لكنه في الوقت نفسه لا تسمح بعقد الزواج المدني على أراضيها، وهذا ما دفع بعديد من الأزواج إلى عقد زواجهم في بلدان ذات أنظمة مدنية كقبرص مثلاً.

وبالنسبة لمشروع القانون المقترح من قبل النواب التسعة، سيلغي إذا أقر، قوانين الأحوال الشخصية الطائفية الخمسة عشر، وسيوحد جميع المواطنين على الأراضي اللبنانية باختلاف انتماءاتهم الدينية والطائفية، من خلال إخضاعهم لزاماً لقانون واحد ينظم أحوالهم مدنياً لا طائفياً.

تقول المحامية في “كفى” فاطمة الحاج إن “رجال الدين وزعماء الطوائف الرافضين لإقرار القانون برمته بدأوا اعتراضاتهم منذ اليوم الأول الذي عرضناه على النواب، فشنوا حملة شرسة لتطييره”. وتسعى منظمة “كفى” لتحقيق المساواة داخل الأسرة بين الرجل والمرأة، وتعتبر أن “سوء تطبيق المادة التاسعة من الدستور أدى إلى استئثار الطوائف بنطاق الأحوال الشخصية وحيلولتها دون إصدار قانون مدني عام، الأمر الذي سمح بإعطاء الأولوية لحقوق الطوائف على حساب حقوق المواطنين”، وتؤكد أن “الدستور أعطى الطوائف استقلالاً ذاتياً في إدارة شؤونها ومصالحها الدينية لكنه لم يحجب حق الدولة في سن تشريعات لتنظيم أوضاع الطوائف”.

الدولة تتنازل

يقول أستاذ الفلسفة والحضارات في الجامعة اللبنانية الأميركية نديم محسن، في حديث مع “اندبندنت عربية”، إن “نقطة الانطلاق لتشريع قانون وطني إلزامي للأحوال الشخصية هي السيادة. فالمادة 16 من الدستور تنص على أن (تتولى السلطة المشرعة هيئة واحدة هي مجلس النواب)، فيما الدولة اللبنانية تتنازل عن حق التشريع القانوني بمواضيع الأحوال الشخصية وتسلمه إلى هيئات طائفية موظفة لديها، وهي هيئات أقل من الدولة حتماً لكنها تملي عليها وتسودها، ما يعني أن في لبنان مواطنين غير منتخبين يمتهنون مهنة رجال دين، يشرعون في زواج وإرث وطلاق وولادة وممات لمواطنين يمتهنون مئات المهن الأخرى.

ويتابع أنه “يمر الصراع السياسي القانوني التاريخي الطويل من أجل كف يد السلطة الدينية في لبنان والمشرق عامة عن التحكم بالأحوال الشخصية في مرحلة ترنح وتراجع تحت وهم التقدم، أو هو يتقدم نحو الهاوية، هذا لأن طرح القانون الوطني للأحوال الشخصية، ومن ضمنها الزواج المدني، بات لا يأتي إلا مدموغاً بوصفة، بل وصمة (الاختياري)، أي يكون أقرب إلى المزاج لا إلزامي كما القانون، وكذلك ليناسب أفراداً لا ليعبر عن مجتمع ويصونه، ويعبر عن كونفدرالية طوائف لا دولة مركزية موحدة”.

ويعترض أستاذ الفلسفة والحضارات على كلمة شخصية ويقول إن “الأحوال الشخصية بتسميتها (شخصية)، خداعة مياعة، إذ إنها توحي بأن الأمر خاص، ولا علاقة للدولة كمؤسسات أو للمجتمع كمتحد حي به. صحيح أن خيار الزواج وشخص الحبيب أو الحبيبة مسألتان خاصتان، لكن القانون الذي ينظم ويضبط الزواج وما يترتب عليه أمر حقوقي جامع ومن مسؤولية الدولة كأي قانون آخر.

ويوضح أن “الزواج والطلاق والإرث أحوال (شخصية) بالاسم أما بالفعل فاجتماعية بامتياز لأنها ترسي أسساً وتنمي علاقات وأخلاقاً وتعكسها في آن معاً عن المجتمع ومفاهيمه وحقوقه في ما يخص العائلة وأفراده”. ويؤكد أن لـ”الاختياري” دائماً وقعاً نفسياً أفضل من الـ”إلزامي”، إذ إن الإنسان بطبيعته ميال إلى اختيار الاختيار لا الخضوع للإلزام، بالتالي، فهو أكثر قبولاً للزواج المدني لو أتى “اختيارياً” منه ملزماً. لكن الإلزام في قانون الأحوال الشخصية المدنية، ككل قانون آخر، ليس تعدياً على الحرية الشخصية بل التزام بالدولة ومرجعيتها. ويشدد محسن على أن “على رجال الدين أن يفهموا أن كتب الفقه التي يقدسونها تلزمهم وحدهم بمضمونها ولا تلزم من لا يؤمن بها من المواطنين كتاباً مقدساً أزلياً سرمدياً. تلزمهم ولا تلزم الدولة، لها عند كثيرين وكثيرات كما لأي كتاب في مكتبة، الاحترام ولكن ليس القداسة”.

لكن كيف لنواب يمثلون أحزاباً علمانية أن يقفوا بوجه إقرار هذا القانون، على هذا الأمر يعلق محسن، “يصل النواب العلمانيون إلى مجلس النواب من خلال تحالفهم وغالباً خضوعهم لحلفاء طائفيين ودينيين لهم القول الفصل في نجاح العلمانيين أو سقوطهم. لذا، يفقد علمانيو التحالفات السياسية السيادة على قرارهم بمجرد انجرافهم في النظام الانتخابي الطائفي المفصل على قياس الحزبيات الدينية والطائفية أو إقطاعها”.

تمويل المؤسسات الدينية

بالعودة إلى الأنظمة والقوانين اللبنانية تعتبر المؤسسات الرسمية الإسلامية (السنية والشيعية والدرزية والعلوية) من مؤسسات الدولة فترصد لها اعتمادات مالية ضمن الموازنة العامة لتغطية نفقاتها المختلفة ورواتب العاملين فيها، وتتبع رئاسة مجلس الوزراء بما فيها المحاكم الإسلامية وليس وزارة العدل، لأن الوزير قد يكون مسلماً أو مسيحياً، أما رئيس الحكومة فهو دائماً من الطائفة الإسلامية وله الإمرة على هذه المؤسسات والمحاكم، بحسب الدولية للمعلومات. وبلغت موازنة المؤسسات الرسمية الإسلامية عام 2018 ما قيمته 29.479.708 مليار ليرة لبنانية (الدولار يساوي 45 ألف ليرة).

وبغية إحداث نوع من التوازن في الإنفاق على المؤسسات الإسلامية والمؤسسات المسيحية اعتمد منذ عقود مبدأ رصد اعتماد في موازنة وزارة العدل يخصص للمحاكم الروحية المسيحية، وقد وصلت قيمته في عام 2018 إلى 3.280 مليار ليرة مقابل 4.1 مليار ليرة في عام 2017، هذا الاعتماد يصرف من دون آلية رسمية ويعطى لمرجع الطائفة ليوزعه بدوره على رجال الدين المسيحيين العاملين في المحاكم الروحية المسيحية.

ونشرت مبادرة غربال اللبنانية، وهي مبادرة تختص بالشفافية وحق الوصول إلى المعلومة، على حسابها على موقع “تويتر”، رسماً بيانياً يوضح الفرق بين الأموال التي يخصصها لبنان للمحاكم والمؤسسات الدينية المختلفة في البلاد، بالمقارنة مع الأموال المخصصة لثلاث وزارات. ويظهر الرسم رصد أكثر من 41 مليون دولار للمؤسسات الدينية مقابل ما يقارب 25.5 مليون دولار لوزارات الصناعة والبيئة ووزارة الشباب مجتمعة في عام 2018. وبحسب المدير التنفيذي للمبادرة أسعد ذبيان فإن “هذه الأرقام لموازنة عام 2018، آخر عام قبل الانهيار الاقتصادي، تبين أن ما صرف لثلاث وزارات يشكل 0.14 في المئة من حجم الموازنة، بينما تخصص الدولة مبالغ أكبر للمحاكم الروحية، التي تتقاضى كذلك أموالاً من الشعب ولا تدفع ضرائب. هذه فضيحة بحد ذاتها”.

 

زر الذهاب إلى الأعلى