ولا تزال النكبة مستمرة لكن إلى حين
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

بعد مرور ٧٥ عاماً على احتلال اليهود لمعظم أرض فلسطين عام ١٩٤٨، وما تبعها من سيطرة على ما تبقى منها في العام ١٩٦٧، لا تزال نكبة فلسطين مستمرة. وتأتي الذكرى السنوية للنكبة في منتصف الشهر الجاري لهذا العام في وضع فلسطيني بالغ التعقيد، وإسرائيلي متقلب، وفي ظل تطورات دولية وإقليمية مهمة.

من المفيد أن نبدأ بفلسطين والفلسطينيين الذين يحتضنون نكبتهم منذ ٧٥ عاماً وأكثر، بصمود وتحد دون كلل أو ملل إيماناً منهم بعدالة قضيتهم وحقهم الثابت في استعادة حقوقهم، رغم كل المؤامرات والظلم والإجرام الذي تعرضوا له على مدار كل هذه السنوات، ولا يزالون.

تكاتفت الجهود الغربية منذ البداية لتثبيت سيطرة اليهود على فلسطين، ونفي حق أهلها، بدءاً بقرار عصبة الأمم الذي وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني عام ١٩٢٢، في ظل إعطاء بريطانيا وعداً لليهود بوطن في فلسطين. وساعدت موازين القوى الدولية في حينه على ترسيخ ذلك التوجه، فبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية التي أخضعت الدول العربية لسلطتها، تقاسمت الدول الغربية المنتصرة في الحرب فيما بينها السيطرة عليها.

ومروراً بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٨١ لعام ١٩٤٧، الذي سمح بتقسيم فلسطين بين أهلها الأصليين والغرباء اللاجئين اليهود. على الرغم من أنه لا يحق للجمعية العامة النظر في مثل هذا النوع من القضايا، الذي يبتّ حسب الأصول في المحاكم، كما أن قرارات الجمعية العامة في الأصل توصيات، أي أنها غير ملزمة، إضافة إلى أن أعضاء الجمعية العامة في حينه لم يتجاوز الـ ٥٠ دولة معظمهم من الدول الغربية الاستعمارية، أو دول مستعمرة قرارها يقبع تحت سيطرة الشريحة الأولى من الدول. فمعظم الدول العربية، في ذلك الوقت، إما كانت مستعمرة من قبل دولة غربية تخضع لسلطتها، أو كانت مستقلة حديثاً، تعاني من مشكلات سياسية وعسكرية.

في العام ١٩٤٧، بدأت المنظمات اليهودية الإرهابية اعتداءاتها المنظمة على الشعب الفلسطيني الأعزل، وكان القرار الأممي ١٨١ بمثابة إعطاء الضوء الأخضر لهذه المنظمات لبدء التنفيذ. وكانت بريطانيا قد مهّدت الطريق لتلك المنظمات لحسم المعركة، طوال العقود الثلاثة التي حكمت خلالها فلسطين، ففي حين لم تكتف فقط بالسماح لليهود في فلسطين باقتناء وتصنيع الأسلحة، بل ساعدتهم على ذلك ودرّبتهم على استخدامها، حرّمت على الفلسطينيين اقتناء أي نوع من السلاح حتى أبسطه، وعاقبت من امتلكه بأشد أنواع العقاب، لخلخلة معادلة القوة على الأرض لصالح اليهود.

وقف العالم الغربي المتآمر على الفلسطينيين متفرجاً، أمام جرائم العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين، والتي أحرقت ودمرت القرى الفلسطينية، وارتكبت المجازر، ويبدو أن ما عرف من تلك المجازر أقل كثيراً ممّا خفي عن الأنظار، خصوصاً أن هناك قرى فلسطينية قد أبيدت عن بكرة أبيها. وتتحفظ إسرائيل حتى هذه اللحظة على كشف وثائقها التي تفضح حقيقة الجرائم التي ارتكبت بحق الفلسطينيين، بما فيها تلك التي ارتكبت خلال الخمسينيات من القرن الماضي، أي بعد الإعلان عن قيام دولة إسرائيل بتدبيرها.

بعد احتلال إسرائيل لباقي الأراضي الفلسطينية وأراض عربية أخرى سورية ولبنانية ومصرية في العام ١٩٦٧، ورغم إصدار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرار ٢٤٢ الذي يؤكد على ضرورة انسحاب المحتل من الأراضي التي احتلها، ورغم أن جريمة إسرائيل تنتهك السلم والأمن في منطقة الشرق الأوسط، ذلك الانتهاك الذي يعد ردعه المقصد الرئيس لقيام الأمم المتحدة، لم تجبر إسرائيل على الانسحاب، لا من قبل الأمم المتحدة بتحويل الانتهاك للفصل السابع لردعها باستخدام القوة، ولا من قبل الدول الغربية من خارج نطاق الأمم المتحدة. وهو الأمر الذي رأيناه في حالات أخرى، كتدخل الأمم المتحدة في ليبيا وتدخل الولايات المتحدة وحلفائها في العراق.

أما الفلسطينيون، الذين أصبح نصفهم لاجئاً خارج وطنه، فقد عانوا من ظلم الغرب من جهة، ومن خلافات ذي القربى فيما بينهم من جهة أخرى. فشكل احتياج الفلسطينيين في ذلك الوقت لأرض تنطلق منها مقاومتهم وغطاء سياسي ومالي يدعم بقاءهم، للارتباط بالدول العربية وقرارها السياسي، خصوصاً الدول التي تحيط بفلسطين وتمتلك حدوداً معها وهي مصر والأردن ولبنان وسورية. واجهت المقاومة الفلسطينية منذ العام ١٩٤٨ رفضاً وتقييداً في الضفة الغربية وغزة، وعانت بعد العام ١٩٦٧ تطويقاً وملاحقة من قبل الاحتلال، خصوصاً في لبنان، إلى أن تم إجلاء القوات الفلسطينية منها إلى تونس في العام ١٩٨٢. وفي ظل هذه التطورات، خصوصاً بعد توقيع مصر على معاهدة السلام مع إسرائيل في العام ١٩٧٨، تراجعت مقاربات منظمة التحرير، التي مثّلت الفلسطينيين وتبنّت خيار المقاومة لتحقيق الاستقلال، باتجاه السلام، الذي أنتج في النهاية توقيع اتفاق أوسلو، الذي حصر الفلسطينيين ومقاومتهم داخل حدود تخضع لسيطرة إسرائيل بالكامل.

وهذا هو حال الفلسطينيين اليوم داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو الخضوع التام تحت سيطرة منظومة عسكرية واستخبارية وأمنية إسرائيلية عالية الدقة، بعد أن تم تقسيم الفلسطينيين فيها لأربعة أجزاء، في غزة والضفة والقدس وأراضي الـ ٤٨، الأمر الذي يجعلهم يعيشون وعن حق في سجن كبير، يتم التحكم من خلاله بكل تفاصيل حياتهم وتتبع تحركاتهم، بأساليب وتقنيات متعددة ومتقدمة عالية الدقة.

عمل الاحتلال طوال سنوات عمره الـ ٧٥ على تثبيت ثقافة إعدام المناضلين فوراً، ومعاقبة أسرهم بهدم منازلهم وسحب هوياتهم وإقاماتهم وطردهم من أرضهم، وهي سياسة لم تجد نفعاً مع الفلسطينيين. ورغم أن عمليات الاغتيال والهدم والطرد التي يقدم عليها الاحتلال بحق الفلسطينيين، تعد جميعها جرائم ترتكب من قبل كيان معترف به دولياً، وتتم خارج نطاق القانون، لم يتم ردع إسرائيل، التي توسّعت في ارتكاب جرائمها، سواء باستخدام القوة المفرطة في ضرب غزة وقتل العزّل والأبرياء، أو بتوسيع حدود القتل في الضفة الغربية بحق الأبرياء بالقتل بمجرد الاشتباه، وفي أرض محتلة يعد كل مواطن فيها مشتبهاً به بحكم هويته الفلسطينية، وتشهد العديد من الجرائم الموثقة اليوم على هذه التهم.

لا نكبة تدوم، ولا ظلم يبقى، فرغم كل هذا الظلم والمؤامرات التي نسجت بعناية ضد الفلسطينيين على مدار كل السنوات الطويلة الماضية، استطاعوا دائماً أن يبتكروا الجديد في التحدي والصمود. فها هم صامدون فوق أرضهم، يرتفع عددهم الطبيعي بانتظام، ولا يفقد من هم في الخارج الأمل بالعودة للوطن، رغم كل ما يواجههم من مصاعب وعراقيل يضعها الاحتلال لإرهابهم والنيل من عزيمتهم. يبتكرون أدواتهم الخاصة جداً في المقاومة، والتي تعجز التقنيات العالية الدقة للاحتلال عن توقعها رغم بساطتها.

اليوم، وفي ظل التطورات، سواء بظهور الانقسامات داخل كيان الاحتلال، واضطراب الحالة السياسية، وهي قضية مؤهّلة لتزيد، وفي ظل التطورات الدولية والإقليمية، التي تشير إلى حدوث تبدل ممكن لتوازن القوى، يخلخل معادلة السيطرة التامة والتحكم بالمنطقة من قبل الولايات المتحدة بشكل منفرد، الحليف الأول والأهم لإسرائيل والداعم الرئيس لوجودها، يبدو من الضروري وضع خطة وطنية فلسطينية تتصدى للاحتلال، جامعة تتغاضى عن الخلافات السياسية الضيقة، لتحقق الثقة الوطنية، وتقوم على تبديل التحالفات واعتماد قوى دولية جديدة صاعدة، وتستثمر بقوة وإمكانيات جميع الأطياف الشعبية الفلسطينية في جميع الأماكن، وواقعية تضع في اعتبارها حدود الإمكانيات لضبط الخسائر.

Back to top button