“جمعة طوفان الأقصى”: بيروت لم تخذل فلسطين يوماً
النشرة الدولية –
المدن – بتول يزبك –
التّخاذل، هذا بالضبط ما لم ترتضه بيروت لنفسها يوماً. لهنيهةٍ، عاد الإيمان إلى المدينة “العنيفة”، عاد مُسبغًا عليها عاطفيّةً ما، لا يُمكن تفسيرها سيكولوجيًّا أو سوسيولوجيًّا.
بيروت المُتضامنة والمستنكرة للمقتلة الفلسطينيّة، المُشفقة على أطفال ونسوة وشيوخ وعجائز غزّة، لم تكن نفسها بيروت اليائسة المتشظية والمُتحفظة والوجلّة، كما شهدناها في الشهور الأخيرة. أعلنت اليوم، وبالفمّ الملآن، باستقامةٍ ووضوح أنها مُنحازةٌ كلّ الانحياز للقضيّة، مع الضحايا، ومع “الحتميّة” التّاريخيّة للعدالة. ارتعشت العاصمة فزعًا وسخطًا، ولعنت إسرائيل وأميركا، وأوروبا، ولعنت التّخاذل. لكنّها لم تفتعل العنف ولم تدع للانخراط الماديّ أو العسكريّ فيه. كان انحياز بيروت موزوناً، عاطفيّتها مُعقلنة. لم يكن حيادًا، بل كان انصهاراً بالقضيّة.. لا محاولةً بأن تصيرها.
بيروت المتضامنة
منذ حوالى السّاعة الواحدة ظهرًا حتّى لحظة كتابة هذا التقرير، غزّت التّظاهرات التّضامنيّة المُنظمة والمُحضرة، المدينة، الغارقة في همومها الخاصة. إلا أن هذه التّظاهرات كانت مُشبعةٌ بطيفٍ رمزيّ، لم ينكفأ طيلة اليوم. كرنفالٌ تضامنيّ، مهرجانٌ شعبيّ احتل الشوارع والأزقة من محلة البربير صعوداً نحو برج أبي حيدر، متدحرجًا صوب وسط البلد، الإسكوا، مرورًا برياض الصلح، وصولاً لبشارة الخوري. بأساطيلٍ من الدراجات الناريّة، مشت المسيرة بآلافها المؤلفة، على صخب الأناشيد والأهازيج، والطبول. حمل المتضامنون الأعلام الفلسطينيّة وكذلك الحزبيّة. نشيد الحريّة كان نشيد الأناشيد اليوم. فلسطين كانت الكلمة التّي تلمظتها بيروت، واستساغتها.
استطاعت القضيّة باقتدارٍ فريد أن تجمع الشيوعيّ والقوميّ السّوريّ والثنائي وتيار المستقبل والاشتراكيّ، والفصائل الفلسطينيّة (فتح وحماس)، وحتّى اليمين المسيحيّ و”الإسلاميين”، وفق مشهدٍ نسيجه قد يبدو للوهلة الأولى أشبه بالكليشيه الوطنيّ، الذي يطمح له بعض الوطنيين، وفق إيديولوجيا من الصعب أخلاقيًّا ازدراؤها، رغم سورياليتها. هذا النسيج الذي بقي مُحافظًا على صبغته، وشكله حتّى انتهاء المسيرة عند الخامسة ما بعد الظهر، التّي انقضت وبغرابةٍ من غير نزاعٍ أو سجالٍ شوارعيّ يُذكر. حتّى المشاركون من اللاجئين الفلسطينيين، المُتشرذمين بخلافاتهم السّياسيّة والنضاليّة، كانوا هناك، بنسوتهم وأطفالهم وكشافتهم وفصائلهم، كانوا واحدًا رغم “تروما” الخصام.
لا يُمكن توصيف المشهد العام، سوى بكون بيروت وعلى غرار عواصم “الوطن العربيّ”، أخذت القضيّة على عاتقها، عدّتها قضيةً شخصيّة، مُرتبطة تمام الارتباط بمفهوم أشمل من القوميّة، والعروبة، أعطتها بُعدها الإنسانيّ، التّاريخيّ، الشعبيّ، الحميميّ، الذي تجاهلته دول العالم الأول. الدول الديمقراطيّة، المدنيّة، الإنسانيّة. كانت بيروت مُتأسلمةً، ومُتمدنة، وحقوقيّة، ومُدافعة، جمعت كل تناقضاتها وحيّدتها جانبًا، باللحم الحيّ، لكنها لم ترض توريط هذا اللحم بمقتلةٍ لا يُحمد عقباها.
يُذكر أن المسيرة قد مُنعت من الدخول إلى الأشرفيّة، من قبل الجيش اللّبنانيّ، الذي وقف حائلاً دون دخول بعض المشاركين عبر درجاتهم الناريّة إلى الجميزة والسّوديكو.
الضاحيّة المتأججة
أما الضاحيّة الجنوبيّة لبيروت، فحاولت لحدٍّ ما اعتناق هذه الروحيّة، تقديس القضيّة، لا وضعها في قالبٍ سياسيّ محوريّ. نجحت الضاحيّة بُرهةً وجيزة، في البقاء على ناصيةٍ من السّياسة، من استكثار الإحسان، واحتكار الفضل. إذ أن كافة التّجمعات الدينيّة، بعد صلاة الجمعة، في مساجد الضاحيّة السّنية (الأوزاعي وبرج البراجنة) وتخومها (صبرا وشاتيلا)، والشيعيّة، كانت تضامنيّة بحتّة.
فيما قلبت الوقفة التّي أعدّها حزب الله، في محلة السّان تيريز (التّي حضرتها “المدن” أيضًا)، المشهد العام، فالآلاف التّي وقفت للاستماع لنائب الأمين العام نعيم قاسم، الذي أشار لكونهم “كحزب الله سيساهمون في المواجهة ضمن رؤيتهم وخطتهم ومتابعين لخطوات العدو ولديهم جهوزية كاملة ومتى يحين وقت أي عمل سيقومون به”. إذ ما أن انتهت خطبة قاسم، حتّى خرج بعضٌ من الشباب بمواكب، اجتاحت الضاحيّة، على وقع الأناشيد والدعوات للمشاركة في الحرب “يا سيد يلا يلا”، لتنخرط لاحقًا بالمسيرة المركزيّة التّي اُعدت في بيروت، وسط استنكار سُجل لعددٍ من المشاركين، لمثل هذه الأناشيد والدعوات. فيما لا تزال الأنظار موجهة لكلمة أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، التّي يترقبها الشارع اللّبنانيّ، المُنشرح برهطٍ منه بهذا الصمت وما يحمله من تفادٍ لحربٍ، واقعيًّا لا يرغب بها شطرٌ واسع والأغلبية (حتّى الشيعيّة) من اللبنانيين.
الأكتاف اللبنانيّة والفلسطينيّة والسّوريّة، التّي تراصت اليوم في مشهديةٍ مهيبة، كانت هي الموقف العام، الذي جمع كافة الأطراف والأطياف اللّبنانيّة.
تفاعل لبنان بعاصمته، مع ما يحدث الآن في فلسطين المحتلة، بصورةٍ لائقة، وحاسمة. فيما لم تحتج السّلطات اللّبنانيّة، لتكثيف وجودها الأمنيّ على امتداد المسيرة، بل كانت مسيرةً في توقيتها الممتاز. وهذا ما يعكس مزاج لبنان الرسميّ والشعبيّ. لكنه في الوقت نفسه، اتعظ من دروس الماضيّ، كما يبدو.