لبنان على المحك
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

هناك ثلاث قضايا محورية آنية في لبنان تتقاطع معاً لتوضح طبيعة أزمته المستعصية، والتي إن بقيت جاثمة بذات الوتيرة، فحتماً ستجره نحو الهاوية. فما بين استمرار الخلافات بين أقطاب العمل السياسي اللبناني، وما يترتب عليها من تفاقم أزمات البلاد على صعد عديدة أهمها الصعيد الاقتصادي، وما بين مساعي إسرائيل لترسيم الحدود مع لبنان بالقوة والاستهتار بالمنظومة السياسية اللبنانية، يصبح إشعال الفتنة بين اللبنانيين، طريق إسرائيل الأمثل لتحقيق أهدافها في لبنان. فحرب طائفية جديدة في لبنان بعد مرور ثلاثة عقود على وأدها، تنفجر من خلال نشرها لبذور الفتنة وتأجيج الشكوك بين اللبنانيين، أوفر كثيراً على إسرائيل من المخاطرة بالدخول في حرب مباشرة مع لبنان، والتصادم مع ترسانة “حزب الله” العسكرية، التي توقعت، حسب تصريحات قيادتها العسكرية، أن تلحق بها خسائر كبيرة. فإلى أي مدى يمكن أن تنجح إسرائيل في تحقيق أهدافها في لبنان، اليوم؟.

هناك عدد من المعطيات الإقليمية والمحلية اللبنانية التي تحدد توجهات إسرائيل وتفسر سلوكها تجاه لبنان، اليوم. وترصد المنطقة تحولات إقليمية خطيرة، وتبدلا في معادلات الصراع فيها، بما لا يعمل لصالح إسرائيل في المنطقة عموماً، وفي لبنان بشكل خاص. تتعلق التحولات الإقليمية أولاً بتطور مكانة إيران، حليف “حزب الله” الأهم، في ظل تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، التي أنتجت تطور علاقات إيران مع الصين وروسيا، ومساعي واشنطن لتوقيع اتفاق معها. يأتي ذلك بالإضافة إلى تطبيع علاقات إيران مع المملكة العربية السعودية وباقي دول الخليج ومصر، وهو ما يسهل إمكانية جسر الخلافات والتفاهم بين أقطاب داخلية متصارعة في دول عربية عديدة منها لبنان. والسعودية ومصر، بالإضافة إلى فرنسا وأميركا، أعضاء في لجنة تتابع الملف اللبناني. وتستعد بيروت لاستقبال مبعوث الرئيس الفرنسي، الشهر القادم، لمتابعة التفاهمات اللبنانية حول شخص رئيس الجمهورية، والتي من شأنها إن نجحت، إحداث اختراق في وضع لبنان الاقتصادي. يأتي ذلك بالإضافة إلى استقبال لبنان السفينة المعنية ببدء أعمال ‏الحفر والتنقيب في حقل ‏قانا، والتي يمكن أن تجلب معها مزيداً من التفاهم والاتفاق بين أقطاب العمل السياسي اللبناني، في ظل إمكانية حدوث انفراجة اقتصادية محتملة. كما ينتظر لبنان نهاية الشهر الجاري تجديد الأمم المتحدة وجود قوات حفظ السلام الدولية “يونيفيل”، وسط اعتراض “حزب الله”، بعد إضافة الأمم المتحدة، العام الماضي، ولأول مرة منذ حرب تموز ٢٠٠٦، بنداً يعدل مهام “اليونيفيل” على أساس “السماح لها بإجراء عملياتها بشكل مستقل”، وعدم حاجتها “لإذن مسبق للاضطلاع بالمهام الموكلة إليها”، وكان من المعتاد أن ترافق آليات الجيش اللبناني آليات “اليونيفيل” في مناطق عملها جنوباً. ويعد عدم سماح لبنان لتمديد عمل “اليونيفيل” أمرا خطيراً على واقع الوضع الأمني الهش في الجنوب، كما أن الالتزام بشرط الأمم المتحدة الجديد، ليس في صالح لبنان.

وفي حين يدير الاحتلال معركة خطيرة تتعلق بالأرض والاستيلاء عليها في جنوب البلاد، تدور معركة من نوع آخر داخلها لكسر شوكة لبنان، وتشتيت طاقات شعبه، وهدر إمكانياته. بدأت الاحتكاكات الميدانية الأخيرة في جنوب لبنان، بمبادرة إسرائيلية قبل أشهر، ويبدو أن ذلك يتعلق بتقييم إسرائيل لموقف “حزب الله” تجاه تمديد عمل “اليونيفيل”، وكذلك التطورات السياسية الإقليمية المتصاعدة بوتيرة سريعة. أعلنت إسرائيل في شهر أيار الماضي أن الجيش سيبدأ بمناورات عسكرية شاملة، تحاكي حرباً على جبهات عدة بما فيها سورية ولبنان. ورد “حزب الله” في ذات الشهر، ونفذ مناورات عسكرية بالقرب من الحدود الجنوبية، حيث أكد حسن نصر الله الأمين العام للحزب، أن هذه المناورات جاءت لتأكيد جاهزية بلاده. وفي تطور لاحق في الشهر التالي، شهدت منطقة جبل روس في منطقة مزارع شبعا الحدودية استنفارا عسكريا من قبل الجيش اللبناني، بعدما عملت قوات الاحتلال الإسرائيلي على تجريف أراضٍ تعود لمواطنين لبنانيين، ومحاولتها وضع سياج شائكة حولها، بهدف تغيير حدود تلك الأراضي. كما أقدمت قوات الاحتلال في ذات الشهر على تجريف أراضي بلدة كفر شوبا المحتلة ووضع شريط حدودي فيها، الأمر الذي استنفر الجيش اللبناني، كما تدخلت قوات “اليونيفيل”، للفصل بين المزارعين اللبنانيين وقوات الاحتلال، التي اعتدت على أراضيهم. وأواخر ذاك الشهر، تقدمت إسرائيل بشكوى لمجلس الأمن تطالب بإلزام لبنان بمنع “حزب الله” من إقامة بنية تحتية عسكرية على الحدود، في إشارة إلى خيمة أقامها الحزب في منطقة مزارع شبعا المحتلة، على خلفية تصعيد الاحتلال في المنطقة. وفي تطور جديد، قامت قوات الاحتلال، الشهر الماضي، بتكريس احتلالها للجزء اللبناني من قرية الغجر الحدودية بوضع سياج شائك وجدار إسمنتي حول البلدة في محاولة من الاحتلال لضمها، ما استدعى تقدم لبنان بشكوى حول ذلك للأمم المتحدة. وفي خطاب الأمين العام لـ”حزب الله”، أكد حسن نصر الله على عدم القبول بمحاولة رسم الحدود الذي تحاول إسرائيل فرضه بالقوة، كما شدد على أن الجزء الذي تحاول إسرائيل  ضمة من قرية الغجر لبناني، ولن يترك لها. في ذات ذلك الشهر، استهدفت قوات الاحتلال ثلاثة أشخاص، قالت، انهم عناصر من “حزب الله” اقتربوا من السياج الحدودي. ولا يخرج تصاعد تصريحات وتهديدات حسن نصر الله وإسرائيل، مؤخراً، خلال الشهر الجاري، عن تطورات الأحداث الماضية.

على الجانب الآخر، يتصاعد توتر غير مبرر بين اللبنانيين أنفسهم على الجبهة اللبنانية الداخلية، فتسبب حادث طريق عادي في منطقة الكحالة، باشتباك مسلح، أودى بحياة لبنانيَين، في ظل سيادة حالة من الاستقطاب والتوتر وإثارة للفتن بين أبناء الشعب الواحد، خصوصاً بين جانب من التيارات المسيحية و”حزب الله”، حيث تصاعدت الأصوات بتسليح المسيحيين للدفاع عن أنفسهم. العديد من الحوادث التي جرت، مؤخراً، تم توجيه أصابع الاتهام فيها لـ”حزب الله” وسلاحه، والذي جرى التوافق حول ضرورة وجوده لحماية البلاد من العدو المتربص بها. جميع تلك الحوادث التي جرت بحق مسيحيين، ينتمون لتيارات تختلف سياسياً مع الحزب، وفي مواقع تقع تحت نفوذ الحزب، وجميعها لم يبدأ التحقيق فيها أو لم يتم الوصول لنتائج التحقيقات فيها، ما يستدعي الشك في طبيعتها، والبحث عن المستفيد الحقيقي من وراء حدوثها. كما أن الموقف المسيحي المتوتر من الحزب، والتصعيد الإعلامي الذي جرى، مؤخراً، لا تتبناه جميع الأحزاب المسيحية في لبنان، وتعد أحزاب بعينها مسؤولة عنه، اليوم. تأتي تلك الحوادث الدموية الميدانية الأخيرة والتوترات بين اللبنانيين في ظل وضع لبناني سياسي واقتصادي واجتماعي معقد، يجعل انفجار الوضع قابلا للحدوث، إذا لم يتم الاحتواء والعودة للرؤية الوطنية الموجهة.

وأخيراً، تمت إثارة الفتنة والاقتتال في مخيم عين الحلوة، مؤخراً، بين قوات الأمن الفلسطيني التابعة لحركة فتح ومجموعات سلفية متشددة، وبعد سقوط عدد من القتلى والجرحى. ولا يتدخل الأمن اللبناني داخل المخيمات الفلسطيني، بناء على اتفاق فلسطيني لبناني. وتم احتواء الأزمة بمساعدة من “حزب الله” وحركة أمل، واتصالات أجراها ميقاتي مع الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. ويعد المخيم من أكبر المخيمات الفلسطينية في لبنان، ويقع في جنوب لبنان، وهناك نفوذ لتيارات إسلامية فيه. وخلال المعركة الأخيرة على غزة قبل عدة أشهر، رصد إطلاق عدة صواريخ من المناطق الجنوبية اللبنانية، دون أن تتبنى أي جهة مسؤوليتها عن ذلك، مع اعتقاد إسرائيلي أنها جاءت من قبل جماعات فلسطينية. علينا الجزم بأن هناك عدوا يتربص بنا، وأن إثارة الفتن واستثمار الخلافات بين الإخوة وأبناء الشعب الواحد لإثارة الاقتتال والحروب الأهلية أيسر وأسهل وأقل تكلفة للعدو لتحقيق غاياته، بدل شن حرب مكلفة في جميع الأحوال من قبله.

Back to top button