هاري كأنه امرؤ القيس
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
ليس من قبيلة أو عشيرة أو حامولة أو عائلة، إلا ويحصل فيها مثل أو بعض الذي حصل مع الأمير هاري (هاري تشارلز ألبرت ديفيد)، ثاني أبناء ملك بريطانيا من زوجته الأولى ديانا، بالشكل الذي عرضه في سيرة حياته التي نشرها الأسبوع الماضي في كتابه الذي جرت ترجمة عنوانه إلى “البديل”.
كلمة Spare عنوان الكتاب، تعادل في اللغة العربية البيضاء تعبير “الاحتياطي” (العجلة الموضوعة في صندوق السيارة تحوّطاً للبنشر)، وهو تعبير ربما أدق من كلمة “البديل”، لما فيه من شحنة نفسية مركّبة ومكافئة للذي أراد هاري أن يعممه من أحاسيس الاستهانة التي تعرّض لها في صغره، فأباحت له أن يشتطّ في القهر ويكشف عن الذي يُفترض أن لا يُنشر من المباذل العائلية.
يقول هاري عن نفسه إنه نشأ مقهورا من أن والده شكر أمه لحظة ولادته بأنها أعطته الصبي الاحتياطي.. (يُستخدم في حال جرى لأخيه الأكبر (ويليام) شيء أزاحه من طريق الوراثة.
هاري وامرؤ القيس عاشا غرباء عن مجتمعاتهما نتيجة ما شعرا به من ظلم الأب، لكنهما لم ينسيا حقهما في السلطة حتى وإن استعانا بقوى أخرى منافسة.
كان أستاذنا في كلية التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت، المرحوم د. قسطنطين زريق، لا يفتأ يكررّ علينا قراءته بأن النظم الملكية في العالم تتشابه عبر التاريخ، في أشياء كثيرة بينها أنها تمتلك في المخيلة العامة فضاء رحبا، تثريه تصرفات قادتها ورموزها، وهي في ذلك تتميز عن النظم المستحدثة في كونها أقرب للقلب منها للعقل. وبالتالي، فإن تسريب ما يجري في دواخلها من شطط عادي إنساني مألوف، سيأخذ في الإعلام حجما مضاعفا ليصبح ذخيرة سياسية مضادة.
سيرة الأمير البريطاني، هاري، وقد أصبح بعد نشر مذكراته أميرا ضليلا، لم أجد لها في الموروث العربي الغني بالمتشابهات، أقرب من قصة الشاعر العربي الجاهلي امرؤ القيس.. قرابة فانتازيا من النوع الذي لا يخضع للمحاكمة.
امرؤ القيس (بن حجُر بن الحارث الكندي) الذي سُمّي الملك الضليل، فيه شبه من الأمير هاري، كونهما ليسا الأبناء الأكبر للخلافة الشرعية. حالةٌ تمنح صاحبها حرية الاختيار في التصرفات البروتوكولية، خيارا يسمح به خليط الجينات والأمزجة والظروف، ويتفاوت من عائلة لأخرى.
كان امرؤ القيس، وهو الموهوب بالشعر والجمال والجرأة، من أوائل الشعراء الذين قيل فيهم إنهم أدخلوا الشعر إلى مخادع النساء خلافاً للتقاليد السائدة، ما جعل أباه يطرده إلى حضرموت ليعيش مع أقاربه، على أمل أن يرعوي.
وفي أوجه الشبه بين سيرتي الأميرين، هاري وامرؤ القيس، حيثيات أخرى من الطبيعي أن تنأى بعيدا عن التطابق، لكنها تحكي من خلال كتاب “الاحتياطي/البديل”، ومن خلال معلّقة امرؤ القيس اللائية الأشهر “قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِل”، وهي التي قيل إنها عُلّقت على أستار الكعبة.. أيامها كانت تلك الأستار أكبر دار نشر في العالم.
كلاهما، موسوم بالشطط والإساءة للعائلة والمنصب، لكنه يرى نفسه “مِكرًّا مِفرًّا مُقبلًا مدبرًا معًا.. كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من علٍ”.. عاشا غريبينِ عن مجتمعاتهما نتيجة ما شعرا به من ظلم الأب، لكنهما لم ينسيا حقهما في السلطة حتى وإن استعانا بقوى أخرى منافسة، ففي ذلك حسب مقولة امرؤ القيس: “وكلّ غريب للغريب نسيبٌ”.
في مذكراته المكتوبة بحرفة صحفية بالغة، كان هاري ينبش أيضا في كومة المحرّمات التي طالما أخذت شكل نظريات المؤامرة.
الدورة الصحفية التي أحاطت بكتاب سيرة الأمير هاري، كانت مُلفتة في صدمة القراءة والتأويل، وفي حدة التوجيع والفوضوية التي اتسمت بها، ولا تزال مفتوحة.
قبل إصداره كتاب سيرة حياته، ومنذ خروجه من القصر هو وزوجته الأمريكية ميغان، وتخليه عن مهامه الملكية، اتّبع هاري خطة راوحت بين كرّ الدفاع والهجوم، ولقيت رعايات مدفوعة بسخاء، شملت طلّات صحفية فضّاحة، كما بوثائقي على قناة “أي تي في” البريطانية أعلن فيه عن قرب إصدار مذكراته، وأرفق بذكريات من طفولته ورحيل والدته والأزمات النفسية التي عاشها والفساد الذي شاهده في القصر الملكي.
في الذي قاله هاري يومها إنه موجوعُ ينتقم. كتب مذكراته، لأنه تعرض لكثير من المؤامرات والتسريبات في القصر، ضده وضد زوجته بما يعادل مجلدات، وأن بعضاً من أفراد العائلة تعاونوا مع الشيطان ضدهما، بدءاً من التسريبات الصحفية وليس انتهاءً باختراق هاتفه والتجسس على حياته الشخصية.
قال إن الضعفاء وحدهم هم الذين يسكتون على الضيم وأنه هو لن يسكت، وكان ذلك التهديد مدخلا طبيعيا لانتظار ما سيكشفه هاري في مذكراته، والتكهن بالذي سيحتفظ به في حال قرر إصدار جزء ثان منها، فهو مصحوب بزوجة توصف بأنها ساحرة.. أقوى منه وتقوده.
في الكتاب عرض هاري تشكيلة بألوان صارخة من القصص غير اللائقة؛ قصة يوم فقد عذريته مع امرأة مسنّة كانت تتصرف معه كأنه بغلٌ صغير، وأيضاً قصة كيف تبوّل في سرواله وهو في الطريق إلى موعده الأول مع ميغان، وأيضا كيف قتل أزيد من ثلاثين أفغانيا، مؤمنا أنه بذلك يمنعهم من اقتراف الأفعال الدموية.
كان هاري فظّا وهو يتوسع في وصف المراهم التي كان يستعملها لبعض مناطق جسمه الحساسة ويضحك لأنها كانت تُذكّره بمكياج والدته.
وجاءت هذه التشكيلة من الذكريات غير بعيدة عن لقطات أخرى ملغومة بالإيحاءات، أثارت في الصحف الأمريكية والبريطانية تصوّرات بأن الفتى أكثر من مجرد صبي موجوع لكون والده لم يحضنه بحرارة لحظة اصطدامه بحقيقة وفاة أمه..
ففي مذكراته المكتوبة بحرفة صحفية بالغة، كان هاري ينبش أيضا في كومة المحرّمات التي طالما أخذت شكل نظريات المؤامرة.
جاء على سيرة شائعات أن أمه ماتت مقتولة بحرفة تتجاوز حادث الاصطدام؛ يعني أن الذين قتلوها هم أنفسهم الذين اضطهدوه هو، واعتبروه شيئا احتياطيا.
وعندما تجرّأ على الحديث في شائعة كان سمعها الجميع بأنه هو نفسه “ابن أبيه”، ترك الرواية تأتي على لسان الأمير تشارلز، باعتبارها واحدة من النكات البلهاء (كما يصفها) التي اعتاد الأب أن يلقيها، وكان في ذلك يشير إلى شائعة أن هاري هو ابن الأميرة ديانا، لكن من عشيقها جيمس هويت، وأنه (هاري) ليس ابن الأمير تشارلز.
هذه اللقطة الثقيلة التي رواها هاري كنكتة على لسان تشارلز، أتبعها بالقول إن علاقة أمه مع سائس خيلها جيمس هويت كانت، في الأصل بعد سنوات من ولادته هو؛ بمعنى أن القصة غير صحيحة أساسا.
هذا الكمّ من المفرقعات السياسية والأخلاقية والنفسية التي تضمنتها مذكرات هاري، جعلت شبكة “بي بي سي (إنجليزي)” تصف الكتاب بأنه “أغرب كتاب على الإطلاق، سطّره أحد أفراد العائلة المالكة، وصفته بأنه عمل مشغول بطريقة الأشباح، حساب سريع الخطى، سريع الرصاصات، من شخص يتطلع من الداخل ودوماً يعرف أن هناك حراساً شخصيين خارج الباب، وأن الكاميرات داخل الغرف تنتظر الإمساك به متلبساً.
وتضيف في التحريض على هاري: “حتى عندما كان تلميذاً يحشّش مع أصدقائه، كان يراقب الشرطة في الخارج الموجودين لحراسته”.
وفي تقرير آخر، تساءلت “بي بي سي”، وهي الذراع الإعلامي المزمن للمؤسسة البريطانية: “لماذا يبدو الأمريكيون مؤيدين لهاري أكثر من البريطانيين؟”.
هي لم تجب عن هذا السؤال، لكن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية أجابت تقريبا وهي تطرح مستخلصاتها عن الكتاب والضجة التي رافقته، بالتساؤل عن مصير النظام الملكي البريطاني في ظلّ هكذا زعامات.
امرؤ القيس ترك لنا كلمته الشهيرة التي قال فيها عندما صحا من صدمة زوال الحكم بالغزو والاغتيال: “إنه أبي، ضيعّني صغيراً وحمّلني دمه كبيرا”.
وبدورها، قرأت صحيفة “ذي أتلانتك” الأمريكية في أن “كتاب الأمير هاري يقوّض فكرة النظام الملكي لبريطانيا”.
وحتى صحيفة “الغارديان” البريطانية التي كانت قد أسهبت في وصف ولْدنة الأمير هاري وخرجاته غير اللائقة، لم تر بأساً في أن تنقل عن المؤرخة الشخصية للملك تشارلز، كاترين ماير، قولها إن الغضب من العنصرية وكراهية النساء، ومن عدة أشياء أخرى أوردها هاري في كتابه، يمكن أن تقوض حالة الإجماع الوطني على الملكية، مضيفة أن “كتاب الأمير هاري قد يكون بداية النهاية”.
بين هاري وامرؤ القيس والأمير زمانٌ طوله 1450 سنة، يختلفان في كل الذي يخطر على البال، لكن جمعتهما إضافة إلى وظيفة الإمارة، أن كليهما عاشا ما يصفه فرويد بأنه عقدة اضطهاد الأب، وما يترتب عليها من اختلالات. وفي الحالتين مُلك مهدد يوجب الحماية، كل على طريقته.
امرؤ القيس ترك لنا كلمته الشهيرة التي قال فيها عندما صحا من صدمة زوال الحكم بالغزو والاغتيال: “إنه أبي، ضيّعني صغيرًا وحمّلني دمه كبيرًا”.
نفسها تقريبا الكلمة التي قالها هاري عن مذكراته: “ما أفعله هو لحماية العائلة من نفسها”.
كلاهما كان قد دفع ثمن اضطهاد الأب، وبات يتصرف تائها لا يعرف هل هو شخص عادي أم أمير؟