جارة القمر تصالحنا مع الواقع
بقلم: يمينة حمدي

الموسيقى نبض جوهري في حياتنا. إلا أن النسق السريع لحياتنا المعاصرة، جعلها منهكة ومفتتة، ما حرمنا في معظم الوقت من فسحة الاستماع إلى أغانينا المفضلة.

النشرة الدولية –

العرب –

اعتدت في مراحل دراستي الثانوية والجامعية على ارتشاف قهوتي الصباحية على إيقاع فيروزيات “جارة القمر”، وهو طقس يكاد يكون يوميا بالنسبة لي، وفي كل مرة آخذ جرعة من الكافيين ممزوجة مع أغاني فيروز، أشعر أنها قد وضعتني في الحالة الذهنية الصحيحة للمضي قدما في مذاكرتي ودراستي بشكل عام.

كان لدي من الأسباب ما يكفي لأحافظ على هذه الرابطة الحسية مع أغاني فيروز، فهي تنعش فيّ بطريقة ما مشاعر عميقة تشعرني بالارتياح وتملأ نفسي بالانشراح والسرور، ويتمخض عنها الكثير من المشاعر الإيجابية التي تصالحني مع الواقع وتجعلني أتقبله على شاكلته.

عندما أعود بالزمن إلى الوراء، لأتذكر الأشياء الجميلة التي مررت بها في حياتي، وخاصة تلك التي ساهمت حقا في تشكيل ذوقي وشخصيتي، لا أستطيع أن أغيّب عشقي الممتد طوال حياتي لأغاني الزمن الجميل.

أعتقد أنه لا يوجد في الحياة أجمل من الاستماع للأغاني الطربية القديمة، إنها تستحق أن نستمتع بها، ونحيا بها أفضل حياة، وكل ما نحتاجه هو آذان “سميعة” وذواقة.

بالطبع، هذا ليس ترخيصا مطلقا للاستماع للأغاني على امتداد اليوم، لكن يكفي أن نسترق بضع دقائق معدودة لنستمع إلى مقطوعة موسيقية أو أغنية واحدة على الأقل، حتى نشعر أننا في حالة نفسية وذهنية أفضل، خاصة إذا رافقها مشروبنا السحري الذي يحتوي على الكافيين.

نحن كائنات اجتماعية مجبولة على حب الموسيقى، هكذا كنا وسنظل. فقبل أن نتعلم الكلام والمشي، تعلمنا التمايل على إيقاعات الموسيقى، وانسجمنا مع الألحان إلى حد التماهي الحسي والحركي مع كل نغمة.

لقد نشأنا وتطورنا على ترديد الأغاني وتبادل المشاعر عبر الأغاني. وهكذا جعلتنا الموسيقى كائنات شاعرية، ومنها تعلمنا اللغة الحسية والتعبيرية، وعبّرنا بها عن هوياتنا وثقافاتنا، إلى درجة أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون قال إن “الموسيقى تعطي روحا للكون، أجنحة للعقل، طيرانا للمخيّلة وحياة لكل شيء”، ولم يكفّ علماء النفس عن سبر أغوار العلاقة بين الموسيقى وعلاج علل الروح والجسد.

الموسيقى نبض جوهري في حياتنا. إلا أن النسق السريع لحياتنا المعاصرة، جعلها منهكة ومفتتة، ما حرمنا في معظم الوقت من فسحة الاستماع إلى أغانينا المفضلة، وانقرضت الكثير من الطقوس الجميلة بشكل غير مسبوق. فمن منا مازال يحفل بفتح المذياع يوميا للاستماع لـ”جارة القمر” فيروز، بعد أن أصبحت أفئدة الناس  مشغولة بالبحث عن الكنز الوهمي في الجزء الغربي من الكرة الأرضية!

بعض الدراسات الحديثة نوهت بالتراجع الملحوظ في استمتاع الناس في العالم العربي بالموسيقى، وعدم تمكن الملايين من الناس من تجربة التأثير السحري لأغاني الزمن الجميل المُعدة برهافة حس وذوق وحذق للطرب وللموسيقى، وكيف كانت تغمر مستمعيها بأنغامها ومعانيها وتحيطهم بها حتى يكونوا جزءا منها، وذلك على نحو لم تنجح فيه أغلب الأغاني العصرية ذات الإيقاعات السريعة والنبرة الزاعقة والمفردات التي تنم عن الغرور والشعور بالأحقية مثل “أنا” و”لي”، بدل الكلمات الرومانسية والشاعرية والاجتماعية المتسامحة.

ذلك لا يعني أن جميع الأغاني الحديثة تشكل خيارا جديرا بالازدراء، لكن معظمها لم يرق إلى أن يكون قوة اجتماعية وشعبية مثلما هو الحال بالنسبة للطرب العربي الأصيل.

ماذا لو أعدنا فتح صندوق الكنز الكبير للثروات الموسيقية العربية من الشرق إلى الغرب، وأخرجنا الدرر الغنائية والموسيقية، ووضعنا كل قطعة في مكانتها الطبيعية، وسردنا القصص الملهمة عنها للقراء والمستمعين، وكيف ظهرت على أيدي فنانين مبدعين وموهوبين شاطرونا الحزن والفرح في أوقات الأزمات والمسرات.

زر الذهاب إلى الأعلى