مشهدية زفاف ولي عهد الأردن وأصدائه
بقلم: سيلفانا الخوري
النشرة الدولية –
هنا محاولة متأخرة لقراءة مشهدية زفاف ولي عهد الأردن وأصدائه وردود الفعل عليه بوصفه أنموذجاً عن الكيفية التي تعمل بها السلطة لتبدو شرعية ومرغوبة:
نعرف بفضل بورديو أن أحكامنا الجمالية وأذواقنا وأساليب عيشنا وأنماط استهلاكنا الثقافي ليست مسألة ميول شخصية أو طبيعية، وأنها تنبني على آليات اجتماعية وطبقية هدفها تمييزنا عمّن نعتبرهم في مرتبة أدنى منّا. وبحكم كونها متراتبة، تدخل هذه الأذواق في منظومة الهيمنة الرمزية. هكذا يصير ذوق النخبة في مجتمع ما هو الذوق الشرعي الذي يرسم الحدود بين الجميل والقبيح، الأنيق والمبتذل. لكنّ هذه الأحكام ليست ثابتة ونهائية، فما إن يصير ذوق النخبة شائعاً بين الناس “العاديّين”، حتى تتراجع النخبة عنه في رغبة صريحة في رفض المساس والاحتكاك، رغبةٌ لا تختلف في العمق عن نظام الـ”كاست” الهندي. وكلما استبعدت النخبة مفهوماً معيناً أو استحوذت عليه، تغيّر محموله الرمزيّ فوراً؛ فالبساطة الموضوعية يمكن أن تُسمّى فقراً حيناً وأناقة في حين آخر، حسبَ موقف النخبة منها، وكذلك التعقيد، قد يكون إتقاناً وتركيباً أو مبالغةً وابتذالاً.
هذا في العموم، لكن “البساطة” التي ما انفكّ متابعو الاحتفالات الأردنية من مختلف البلدان العربية يتغنّون بها (والتي لا علاقة لها بالتكلفة) والتي بدأت منذ احتفالات زفاف الأميرة إيمان قبل شهرين وانتهت بزفاف ولي العهد، ليست مجرّد ذوق ملكي انبهر به “العوام”، بل فيها أيضاً شيءٌ من رغبة “العوام” التي تعيد السلطة تصديرها لهم من أجل مُراضاتهم وتثبيت سيطرتها عليهم في عملية لا يكفي بورديو وحده ليعيننا على قراءتها.
فالسلطة لا تفرض نفسها بالقمع والإكراه والترهيب فقط، بل بالترغيب أيضاً. لا تريد السلطة أن تثير الخوف دوماً، بل تريدك أن تعتبرها ضامناً لرفاهك وأمنك وأخلاقياتك، حتى لو بإيهامك بذلك.
تريدك السلطة أن تُحبّها أيضاً. ومن أجل ذلك تلعب على رغبة الناس في حياة طبيعية وتمارس إزاءهم ما يسميه فوكو، وما تشتغل عليه في أثره عالمة السياسة بياتريس إيبو، “المجاملات الماكرة” أو “اللّطف الخدّاع”.
فالسلطة الأردنية، بنبذها الإبهار الفائض وباختيارها الابتعاد عن البهرجة الزائدة وبجعل الاحتفالات تتّخذ طابعاً شعبياً وتقليدياً (حنّاء الأميرة، وحمّام الأمير، وزفّة من هنا، وحفل موسيقي شعبي من هناك) ومشاركة مباشرة من الناس (مدروسة طبعاً مثل “كاستينغ” فيلم ومخطّط لأصغر تفاصيلها) إنما كانت بشكلٍ ما هي التي تتشبّه بالناس لتقول لهم “أنا لكم ومنكم” (“الحسين ابنكم” كرّرت الملكة رانيا في كلمتها التي لا تزال تطالعني في الـ”ريلز” كلما دخلت على فيسبوك!).
وفي سياق عربي محكوم بالقلاقل ويبدو فيه الأردن واحة استقرار نادرة لم تهزّها محاولة الانقلاب في 2021، كانت السلطة فيه كأنما تريد من خلال هذه الاحتفالات أن تقول للأردنيين: كل شيء طبيعي، قد لا يكون الوضع الاقتصادي جيداً لكنني ضامن رغبتكم في حياة “طبيعية”. وفي الواقع، نجح الزفاف بالجماليات التي أراد تكريسها، وبخيار عدم البذخ البصري والمشهدي، الذي لا نراه عند أثرياء الخليج ونخب الفن والإعلام وديكتاتوريات العرب، بتحقيق هدفه، وبالقول: أنا الضامن والمثال لأخلاقيات هذا المجتمع الأبوي المحافظ. ووصل البلاغ. فقرأنا وسمعنا إشادات وتهليلات تحتفي بالبساطة والحشمة والأناقة والتواضع واحترام التقاليد والقرب من الشعب و”القيم العائلية” و”التربية الصحّ”… وبدل أن يوجّه الناس نقدهم للسلطة، استُعملت السلطة مسطرة يقيس بها الناس بعضهم بعضاً، تقييماً أو معايرةً أو تأديباً: “شفتوا البساطة والحشمة؟”، “تعلّموا الأناقة من بنات الملك!”… ناقص الثروة والسلطة طبعاً.
إلا إن الرغبة التي تريد السلطة أن تستحثّها لدى رعاياها يجب أن تظلّ ممسوكة. بساطة وتقليد نعم، لكن مع الحفاظ على هالةٍ وهيبةٍ ملوكيّتين. لا تريد السلطة أن تبدو قريبة إلا بقدر. فانشغل الناس بفساتين الملكة والعروس والأميرتين، وبحذاء العروس وطرحتها وتسريحتها وماكياجها. ثمة من أُعجب وثمة من انتقد ووجد تفاصيل لم تعجبه فعلّق عليها كمن يعلّق على حفل زفاف فردٍ من العائلة.
هكذا، في هذه المسافة الواهية بين الشبه والتمايز، بين الرغبة والنفور، بين الكره والحب، بين الغيرة والتماهي، تثبّت السلطة نفسها أكتر وتتكرّس ببالغ الدهاء: هم مثلنا لكن ليس تماماً. أكثر منا لكن ليس كثيراً. بعيدون لكن في المتناول. والزفاف بروتوكولي ومكلف لكن عائلي وبسيط، والأميرتان تركضان خلف طرحة كنّتهما وتنحنيان لترتيبها فتهتف المذيعة من الأستوديو: “نحن النساء ننتبه لهذه التفاصيل”، فنهزّ نحن أيضاً رؤوسنا من خلف شاشاتنا. عملية التماهي مع السلطة تمّت بنجاح.