د. سناء الشّعلان تتحدّثْ عن رحلتها (الطّريق إلى كريشنا)
* أمّي نعيمة المشايخ هي شريكتي المقدّسة في هذه الرّحلة الممتعة.
* الصّديق الأديب عبّاس داخل حسن هو من حرّضني على تدوين رحلاتي، وكتب مقدّماتها جميعاً.
* الرّحلة في الهند هي تجربة إبداعيّة متوالدة ومتجدّدة.
* أدب الرّحلات فنّ لا يفقد ألقه وسحره أبداً.
النشرة الدولية –
على هامش فوز الأديبة د. سناء الشّعلان (بنت نعيمة) بجائزة ابن بطوطة لأدب الرّحلة عن (الطّريق إلى كريشنا) في الدّورة الحادية والعشرين في فئة (الرّحلة المعاصرة: سندباد الجديد) للعام 2022-2023 الصّادرة عن المركز العربيّ للأدب الجغرافيّ (ارتياد الآفاق) ودار السّويديّ للنّشر والتّوزيع، أبو ظبي ولندن، بريطانيا والإمارات العربيّة المتّحدة قالت حول رحلة (الطّريق إلى كريشنا) التي صدرت في كتاب مستقلّ: “لا أحبّ الكتابة عن رحلاتي، لكنّني أفضّل أن أعيشها، وأن أنغمس فيها حدّ التّلاشي في تفاصيلها دون أن أنشغل في تسجيل وقائعها، أو توثيق أحداثها في كتب خاصّة بذلك، وهذا كان السّر الأكبر وراء استمتاعي بالرّحلات، وبذلي النّفيس والأنفس لأجل القيام بها مسكونة بفكرة معايشة البشر وحيواتهم، واقتناص أعمار أخرى فوق عمري الهبائي مقابل أعمار البشريّة وعمر هذا الكوكب الضّائع المجهول في كون لا أحد يعرف حقيقة حدوده ومجاهله.
لقد تعلّمتُ في السّفر أن أرهف مشاعري وحواسي لكلّ ما يدور حولي، كما تعلّمتُ أنّ السّفر في الجغرافيا هو في حقيقة الحال سفر في التّاريخ والثّقافة والإنسان والتّجربة والخبرات، كما هو اكتشاف لي؛ ففي كلّ مرّة أسافر فيها أكتشف نفسي مرّة تلو أخرى، كما تعلّمتُ أنّ اكتشاف الذّات والإنسان هي مهّمة شاقّة ومخيفة وغير مأمونة المآلات، تماماً كما هي تجربة لذيذة لا تدانيها أيّ لذّة خلا تفتّق الرّوح والجسد عن ولادة إنسان آخر.
لكن هذه الخبرات جميعها لم تغرني على امتداد سنين طويلة لتوثيق رحلاتي وأسفاري وخبراتي في وثيقة سرديّة مكتوبة، إلى أن نجح صديقي اللّدود الأديب والنّاقد العراقيّ عبّاس داخل حسن في أن يقنعني بذلك، ولا أعرف كيف استطاع ذلك؟ وأنا من كنتُ أصرّ على رفض الكتابة في هذا الأدب، وأختزل تجربتي كاملة فيه في صور فوتوغرافيّة التقطها في رحلاتي، وأجيب كلّ من يقترح عليّ تدوين رحلاتي على امتداد عقدين من الزّمان أو نيف، بأنّني لا أحبّ أدب الرّحلات، كما أمقت أدب السّيرة الذّاتيّة.
لكن تعويذة سحريّة ما من صديقي عباس داخل حسن قد جعلتني أمسك قلمي، وأبدأ في الكتابة، عندها فقط بدأتُ أعود إلى تجربتي كاملة، و طفقتُ أخرج ما في جعبتي من عجائب السّفر، وغرائب الرّحلات، ومُلح التّطواف في أرض اللّه الواسعة الصّغيرة في آن، وراق لي أن أشارك القارئ بتجربة الصّداع المزمن العذب الذي اسمه التّرحال والرّحلات.
لعلّ فنّ الرّحلات هو فنّ ذكوريّ بالدّرجة الأولى من حيث التّأريخ له؛ إذ كتب الرّجال الرّحالة في هذا الفنّ أكثر ممّا كتبت المرأة فيه؛ لأنّ الرّجل كان صاحب الحظوة والكأس المعلّى في خوض غمار تجارب السّفر بحكم ذكورته المسيطرة التي فتحت الآفاق له، وتركت المرأة محبوسة على رعاية البيوت والأطفال والحقول، ولكن المرأة قرّرتْ أخيراً أن تكتب في هذا الحقل عندما شدّت رحالها أنّى شاءت السّفر، وكانت لها رحلاتها الخاصّة، ومشاهداتها المتفرّدة، بعيداً عن سجون الأنوثة، ووصايات الذّكورة.
هل للمرأة عينان مختلفتان عن الرّجل في الرّؤية والاكتشاف؟ الإجابة التي أؤمن بها، هي أنّها تملك عينين مختلفتين؛ ولذلك تكتب بشكل يختلف عمّا قد يكتب الرّجل به في الشّأن ذاته؛ لأنّها ترى بطريقتها الخاصّة، وتحاكم العالم انطلاقاً من حقيقة وجودها وتكوينها، وتكتشف كلّ شيء بحكم دهشتها، مفارقة الواقع المتكشف لاعتيادي تفاصيل حياتها.
تجربتي الأنثى في تدوين رحلاتي إلى كشمير والهند هي في حقيقة الحال تجربة أنثويّة مزدوجة؛ إذ عاينتُ هذه التّجربة عبر أكثر من رحلة في العامين 2016- 2017 مع والدتي السّيدة نعيمة المشايخ التي رافقتني في هذه الرّحلة، لنخلق سوّياً تجربتنا الاستنثائيّة في هذا الصّدد؛ فهي رحلة المرأة مع المرأة، والأمّ مع الابنة، والابنة مع الأمّ، والكاتبة مع الكاتبة، والمبدعة مع المبدعة في اكتشاف عوالم أخرى، ومجاهيل إنسانيّة مغرقة في أدغال الوجود البشريّ المعقّد الملغز.
لذلك هذه الكتابة التّوثيقيّة لرحلاتي وأمّي نعيمة المشايخ في كشمير والهند هي بقلمي من حيث الكتابة والرّسم اللّغويّ والتّوثيق السّرديّ، ولكنّها في حقيقة الحال هي نتيجة المعايشة الثّنائيّة لي ولأمّي في هذه الرّحلات، وهي تجسيد لانطباعاتي وانطباعتها، ورصد لمشاهداتي ومشاهداتها، ونقل أمين لما حدث معي ومعها في هذه الرّحلات.
لا أبالغ في القول إنّ ما كتبته بقلمي في هذه الرّحلة، ما هو إلاّ صدى صوت أمّي نعيمة المشايخ وهي تحدّث الأقارب والأهل والأصدقاء والجيران عن رحلاتها بصوتها الحنون المنفعل المتحمّس الذي يريد أن ينقل للمستمع لها كلّ ما رأى، وسمع، وأحسّ.
عيون أربع ترى الكثير إن كانت ملك لأمّ وابنتها، وأيّ أمّ؟ وأيّ ابنة؟ إنّها أمّ رؤوم تطوف الدّنيا مع ابنتها بقدميها الموجوعتين كي لا تفارق ابنتها، وإنّها ابنة تحبّ أن ترى العالم بعيني أمّها، وعندما ترى دهشة الاكتشاف فيهما تشعر بأنّها أعظم فاتحة في الكون.
هذه الرّحلة هي سياحة في تجربة بنوّتي لأمي، بقدر ما هي تجربة رفقة الأم لابنتها الرّحالة، وترّحلها لأجلها، لا لأجل الاكتشاف والمغامرة والمعرفة حسب، كما هي سياحة إنسانيّة في أرواح بشر قابلتهم، وأفاضوا عليّ في هذه الرّحلة بأوقاتهم ومعارفهم وعلومهم ومحبّتهم، وأدخلوني إلى عوالمهم مكرّمة معزّزة، وشاطروني الدّرب، وعطّروه لي بصحبتهم الزّكيّة المخلصة، فالشّكر الكبير للأرواح الجميلة التي رافقتني في هذه الرّحلات بكلّ محبّة وعطاء: أ. د مجيب الرّحمن، وأ. د محمد ثناء الله النّدويّ، وأ. د محمد إشارت علي ملّا، ود. محمد أشرف علي، ود. عرفاني رحيم، والباحث أ. أسعد جمال، والباحث أ. عُبيد الرّحمن البخاريّ.
أمّ بطبوطة وابنتها بطبوطة رحّالتان من طراز خاصّ؛ ولهما تجارب مختلفة في التّطواف في أرض الله؛ إذ الأمّ وابنتها تعاينان الحياة معاً، وتعيشان التّجربة ذاتها، وتقتسمان المشاعر المتولّدة عينها؛ فتتحوّل أمّ بطبوطة إلى حكّاءة شعبيّة تروي مشافهة ما رأتْ لمن حولها، وتروغ ابنتها بطبوطة إلى القلم والورق لتسجّل مشاهداتهما وتجاربهما في سِفْر الكلمة؛ لتكون وثائق مشاهدات حقيقيّة منغمسة في تجارب إنسانيّة خاصّة في عالم أصبح متاحاً كاملاً صوتاً وصورةً بمجرّد الضّغط على أيّ محرّك بحث في العالم الإلكترونيّ الافتراضيّ في الشّبكة العنكبوتيّة التي ما تركتْ للرّحالة من دهشة، سوى دهشة التّلقّي والمعاينة والتّفاعل وتكوين الانطباع ومعايشة اللّحظة، في حين استولتْ هي على رصد الحقائق صورة تلو صورة، بتسجيل مرئيّ كامل عزّ نظير في الماضي في زمن الرّحالة القدامى.
عندما شرعتُ في تدوين رحلتي هذه في كشمير والهند عرفتُ سبب هروبي الدّائم من الكتابة في أدب الرّحلات؛ لعلّي لم أرغب يوماً في أن أفتح باب نفسي على العلن، وأن آخذ القرّاء إلى حياتي الشّخصيّة، وإلى مكابداتي الذّاتيّة، وأن أشاركهم كثير دموعي ووجعي وخيبات أملي وقليل فرحي وبهجتي؛ ضنّاً بهم على الحزن، وهم من يعتقدون أنّ الرّحلات هي فرح موصول، وسعادة كاملة، وتجربة محمّلة بالهدايا والمفاجآت السّارة، وكلّ ما لذّ وطاب. في حين أنّ الحقيقة عكس ذلك في معظم الأوقات.
ولكنّني اكتشفتُ فيما بعد أن المشاركة في التّجربة هي تجربة جديدة أخرى، ورحلة ممتعة جديدة لا أريد أن أحرم نفسي منها، كما لا أريد أن أحرم غيري منها.
لقد كنتُ هناك، والآن أنا هنا. أين يكون هناك؟ وأين يكون هنا؟ لا أحد يعرف؛ فالعالم ثابت، والرّؤى مختلفة، وهنا تكمن اللذّة”.