حلٌّ للقضية بإعادة توصيفها
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
في حفل تكريمه بمعهد الدراسات الدبلوماسية بجامعة جورج تاون، يوم الخميس الماضي، أفسح مدير المخابرات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، مساحة واسعة للشرق الأوسط وهو يتحدث عن خبراته الدبلوماسية، وآخرها جولته فيه بالسابع والعشرين من الشهر الماضي التي شملت إسرائيل ومقر السلطة الفلسطينية برام الله.
نقطتان كانتا لافتتين في محاضرته: الأولى وضوح غير مسبوق في الربط بين ما يجري في إسرائيل، وما يجري في أوكرانيا. كلاهما تنتظرهما خلال الأشهر الستة القادمة أوضاعٌ صدامية تتحدى قوة الاحتمال الأمريكية الموصوفة بالتراخي، وتستوجب المبادرة.
تحدث بيرنز عن انتفاضة فلسطينية ثالثة عنيفة باتت ممكنة في أي لحظة، ويفاقم قلق واشنطن منها ما سمعه هو من بنيامين نتنياهو ومحمود عباس، وترك لديه “شكوكاً ومخاوف”.
الثانية الجديدة التي كشف عنها بيرنز هي أن “أكبر درس تعلّمه في كل السنوات التي قضاها في الشرق الأوسط، هو ضرورة أن تتحلى واشنطن بالتواضع. يقول: غالباً ما كنا نتصور أن بإمكاننا تغيير مناطق في العالم لا نفهمها (ويقصد بأن الشرق الأوسط منها). ولذلك كلما فكرنا في الانسحاب من الشرق الأوسط، كنّا نجد أن هذه المنطقة تضطرنا لأن نبقى فيها مشاركين”.
محادثات نتنياهو وماكرون أظهرت أن إسرائيل خرجت عن تحفظها المرتبك في موضوع تسليح أوكرانيا وانضمت للناتو، وهي مسألة لها تداعياتها في علاقة إسرائيل بروسيا وإيران.
ولعلها هي نفس المشاركة التي استغرقت الشهر الماضي كله تقريبا، وشارك هو فيها. فقد انتهت ثلاثة وفود أمريكية رفيعة المستوى زارت إسرائيل في الأسابيع القليلة الماضية، وهو بينها، إلى برنامج للتهدئة في الضفة الغربية يتصل على مدى أشهر قادمة (لم تُحدّد)، وافق عليه الرئيس الفلسطيني ورئيس الحكومة الإسرائيلية رغم معارضة شركائه في الحكومة الائتلافية.
بعض تفاصيل هذا الاتفاق أضحت معروفة، يلتزم فيها نتنياهو بوقف التوسع الاستيطاني في الضفة، والتوقف عن هدم مئة منزل فلسطيني في القدس، وعدم ترحيل أهالي قرية الخان الأحمر، وذلك في مقابل توقف السلطة الفلسطينية عن اللجوء للأمم المتحدة والمنظمات الدولية.
هذا الجزء المُعلن من الاتفاق الذي قيل إنه تم الاتفاق عليه بين نتنياهو والموفدين الأمريكيين الثلاثة الذين تعاقبوا على زيارة القدس خلال ثلاثة أسابيع، مستشار الأمن القومي ومدير المخابرات المركزية ووزير الخارجية، لم يكن كافياً لمنع انتشار فيض المعلومات والتقديرات التي تواترت خلال الأيام القليلة الماضية، تتحدث عما يمكن وصفه بأنه اختراق غير عادي في ملف المسألة الفلسطينية، يتجاوز موضوع الدولتين، شاركت في تجهيزه أطراف دولية وإقليمية عديدة، وبقيت في القدس مساعدة وزير الخارجية الأمريكية، باربرا ليف، لتوثّق بعض جوانبه مع القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية.
يوم الخميس الماضي كان نتنياهو في باريس جاعلاً منها أول عاصمة غربية يزورها عقب تشكيله الحكومة الجديدة، وبعد أن التقى المبعوثين الأمريكيين الثلاثة وسمع منهم واتفق معهم على التهدئة في الضفة وغزة، وعلى الذي قاله مدير المخابرات المركزية الأمريكية بأنه تحدّى قضايا إقليمية فشلت فيها الدبلوماسية الأمريكية من قبل.
في ما خرج من محادثات نتنياهو والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم الجمعة الماضية، نقطتان لافتتان: واحدة أظهرت أن إسرائيل خرجت عن تحفظها المرتبك في موضوع تسليح أوكرانيا وانضمت لمجموعة حلف الأطلسي، وهي مسألة لها بالتأكيد تداعياتها في علاقة إسرائيل بروسيا وأيضا مع إيران، والثانية حديث عن مشروع جديد بشأن المسألة الفلسطينية تعهد الرئيس الفرنسي أن يشارك في ترويجه ومتابعته مع بعض دول المنطقة.
يبدو أن نتنياهو ومعه الأمريكان والفرنسيون يراهنون على إثبات النظرية النقيض التي تقول إن الحلول الاختراقية والاتفاقات الكبرى مع الدول العربية لا يستطيع أن يحققها في إسرائيل، سوى الموسومين بالتشدد أو بالتطرف.
كما هي العادة لم تتسرب من محادثات نتنياهو وماكرون تفاصيل عن مشروع التسوية الجديد الذي قيل إنه استكمل بين الأطراف المعنيّة مقتضيات تنفيذه ليكون نسخة معدّلة (أو مقلوبة) من صفقة القرن التي كانت طرحتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب متضمنّة ما وُصف بأنه إعادة تعريف القضية الفلسطينية في نطاق برنامج إقليمي للتكامل التنموي.
بعض جوانب الرزمة التنموية الإقليمية التي يتضمنها المشروع الذي يُعتقد أنه تم الاتفاق عليه بين نتنياهو وأركان الإدارة الأمريكية الثلاثة، كانت محور اجتماع عقده نتنياهو مساء يوم الجمعة الماضية في باريس مع مستثمرين فرنسيين في الفندق الذي كان يقيم فيه. مشروعٌ يعيد تعريف القضية الفلسطينية خارج خيار الدولتين، ويعالج المسألة الفلسطينية في جوانبها المعيشية، انطلاقا من الشكوى الفلسطينية من أن الاستيطان الإسرائيلي لم يترك لهم أرضاً كافية تتيح لهم الاستقرار والاستدامة المعيشية.
كان الاجتماع مع المستثمرين الفرنسيين يستهدف بناء حالة من الفصل الجزئي بين الأهالي الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، ويتمثل ببناء شبكة من أنظمة الطرق السريعة تحت الأرض عبر الضفة لتمكين الحفاظ على التواصل الجغرافي للطرفين، الفلسطينيين والمستوطنين.
وفي التفاصيل التي تسّربت، أن المشروع الإنشائي الذي يستخدم تقنيات الملياردير الأمريكي إيلون ماسك في نظم الأنفاق تحت – أرضية، كما تتولاها شركته الهندسية (بورنغ)، سيوفر حلاً للقضايا الأربع التي كانت في السابق تبدو مستعصية: الإحساس الفلسطيني بأنه لم يبق لهم أرض كفاية، وأن التواصل بين المدن والقرى الفلسطينية مفقود بشكل غير إنساني، فضلاً عن أن هذا المشروع يراد له أن يربط المستوطنات مع مناطق الـ48 بشبكة أنفاق وطرق سريعة يصل بعضها إلى غزة، ويضمن تحسين الأمن والحماية للمستوطنين ولحركة السير.
في نهاية الاجتماع مع المستثمرين، حصل نتنياهو على الموافقات التنفيذية التي يريدها، مرفقاً بتسريبات إعلامية عن أن خلافة الرئيس الفلسطيني محمود عباس جرت معالجتها بوساطات مصالحة بينه وبين بعض معارضيه وبما يمكن أن يضمن للتهدئة في الضفة وغزة أن تطول بأكثر مما تم الاتفاق عليه بين نتنياهو ووزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.
أطنانٌ من التقارير والتحليلات كُتبت خلال الأسابيع الستة الماضية التي تلت تشكيل نتنياهو حكومته الائتلافية، تصفها بأنها الأكثر تطرفاً والأدعى لإعاقة التسوية. لكن يبدو أن نتنياهو ومعه الأمريكان والفرنسيون، على الأقل، يراهنون الآن على إثبات النظرية النقيض التي تقول إن الحلول الاختراقية والاتفاقات الكبرى مع الدول العربية لا يستطيع أن يحققها في إسرائيل سوى الموسومين بالتشدد أو بالتطرف.