“الشاعرة هالة نهرا تتبختر وتقطتف وردة الأنا والآخر”
النشرة الدولية –
مجلّة Eilda Arabia – حوار ريتا بولس شهوان –
تتكلمين كثيراً عن ثقافة السؤال، ما هي هذه الثقافة، ومن أين تأتين باستفهاماتك؟ وهل هي مجرّدة من أيّ ذاتية؟
جميلٌ وعميقٌ هو سؤالك. ثقافة السؤال بالنسبة إليّ بإختصار وتبسيط هي الثقافة الواسعة المرنة المنفتحة المشرَّعة على رحابة المعرفة عموماً ورحابة العقل بين الأنا والآخَر والعالَم، حيث لا نركن فقط إلى الأجوبة الجاهزة القديمة المعلَّبة التي تتناقلها الألسن ببغائياً أو تقليدياً فحسب وحيث لا نكتفي بالمسلَّمات أو بالإجابات القاطعة القطعية، لا سيما في بحر المعرفة المتحوّلة باستمرار نوعياً أحياناً كثيرة إثر تراكُمها الكمّيّ واكتشاف الإنسان دوماً المزيد من إلتماعاتها اللامتناهية التي يُستضاء بها، من دون أن نحاول أن نُسائلَها و”نستنطق” انغلاقاتها أو مفارقاتها أو إبهامها أو إلتباساتها أو إشكالياتها أو مُطلقاتها. ثقافة السؤال هي أيضاً الثقافة التي تُحاوِر وتبحث وتحفر، هي التي تحاول أن تنير وتقتات بالإستنارة، هذه الاستنارة التي تشكّل عمليةً مستمرّة لا تنتهي… وتستمدّ هذه الثقافة نورها من الأسئلة الجديدة أو القديمة المتجدّدة التي تُنقّب عن أجوبة جديدة ومتجدّدة أو عن إضافاتٍ على الإجابات القديمة؛ إنه حوارٌ مفتوحٌ متلألىء بين الأنا والآخَر من جهة، وبين الأنا والعالم من جهةٍ أخرى، وهي كذلك الثقافة التي لا تسير في أزقّة ودروب اليقين مغمضة العينين. إنها الثقافة التي تحاول بتواضعٍ وقدر الإمكان أن تتجرّأ باتّزانٍ وأن تكشف أو أن تتلمَّسَ على الأقلّ وفي الحدّ الأدنى حتى لا تبقى عالقة في فجوةٍ مع الزمن والتغيّرات والعالم والإنسان الجديد والوجود، وحتى لا تقع في مطبّ الدوغمائيّ و”الصنميّ” ومنزلَق التحجّر. الأسئلة في محيطات المعرفة تتوالد والإجابات يلد بعضُها بعضَها الآخر. ثقافة السؤال تتأتّى عن الشغف المعرفيّ وحبّ التقدّم والتطوّر. إنها الثقافة التي تركن إلى التفكير والتفكُّر. تُوائمُ هذه الثقافة بين الذاتيّ والموضوعيّ بطبيعة الحال، وبين النسبيّ والمطلَق في أسئلتها.
المجتمعات المنغلقة على المعرفة، أو التي تملك أنانية المعرفة، ترذل السؤال، كيف استطعتِ عبر مسيرتك، الغوص في الأفكار في حين أنّ هناك انغلاقات متعدّدة عالميًا بسبب التحيّزات والاستقطاب.
سؤالكِ قَيِّمٌ. بالطبع ثمّة مجتمعاتٌ منغلقة أو متقوقعة أو بيئاتٌ منغلقة حتى داخل مجتمعٍ منفتح إلى حدٍّ كبير، وثمّة من لا يتقبّل بعض الأسئلة في بيئةٍ طافحة بالمحرّمات والتابوهات والثقافة التقليدية أو في عقلٍ محدود وخشبيّ. علينا أن نعرف كيف نطرح السؤال ارتكازاً على وعينا ووعي مُتلقّي السؤال وبأيّ صيغةٍ نطرحه ومتى نطرحه وعلى مَن نطرحه، ولا بدّ أن نعرف أيضاً على مَن علينا أن لا نطرحه. ما جادلنا جاهلاً إلاّ غلَبَنا جميعاً. لا بدّ من الأخذ بالاعتبار مستوى المتلقّي الذي نطرح عليه أو أمامه “السؤال” وثقافته ومفاهيمه ومنطلقاته. في نهاية المطاف نحن أحرار في طرح ما نشاء كتابةً وفي قول ما نفكّر به ونحترم الآخَر وحرّية الآخَر. الرقابة على الفكر الحرّ الوازن هي رقابة غبيّة ولا يمكنها أن تستمرّ على النحو المتخلّف الذي شهده بعض البلدان. الثقافة هي النافذة الجميلة المفتوحة على الآخَر. العالمُ بأسره وبكل ثقله لا يمكنه في المحصّلة أن يردعكِ عن التفكير والتأمّل. ألف غيمة لا يمكنها أن تحجب في نهاية المطاف نور الشمس. الثقافة المُشرقة تبني جسوراً مع الآخَر والعالم حينما تُباعد أو تفرّق السياسة. القِيمة الثقافية هي التي تفرض حضورها وَوَقْعها وسطوتها هنا أو في العالم وتفرض احترام الآخَر لها ولو اختلف معها أو عنها. الأفكار والكلمات مجنَّحة وتعبر الكرة الأرضية.
من الواضح من خلال تساؤلاتك، أنكِ متأثرة بفلاسفة ومفكّرين، وتبحثين دائماً في قراءاتك عمّا هو مرتبط بالموسيقى، ماذا تعني لك الموسيقى وما علاقتها بالفلسفة في نظرك؟
الموسيقى شغفٌ لديَّ وجمالٌ عظيمٌ آسر. الموسيقى هي اللغة الأكثر تجريداً. يمكن فهم الموسيقى فلسفياً وجزئياً نوعاً ما من زاويةٍ إِسْتِطيقية فلسفية. كذلك ثمة مفكّرون وفلاسفة كتبوا عن الموسيقى، بينهم – على سبيل المثال لا الحصر- فريدريش نيتشه (كان ناقداً موسيقياً أيضاً) وشوبنهاور وإدوارد سعيد، إضافةً إلى ليو تولستوي على اعتباره إستطيقياً ومفكّراً بماهيّة الفنّ، وآخرين… لكن لغة الموسيقى تُفهَم بلغة الموسيقى عينِها (Endosémiotique) وبالشعور الإنسانيّ.
تجمعين بين الموسيقى والعقل، وتعملين على تغذيته فكرياً، هل أنتجتِ أغنيات بما أنك أيضا عازفة؟
الإنتاج يستلزم دعماً مادياً كبيراً لتسجيل الأغاني وإطلاقها، وهذا باهظ التكاليف لإنتاج أعمال رفيعة الجودة في زمن الانحطاط والابتذال والركاكة وجنوح شركات الإنتاج عموماً نحو التجاريّ والاستهلاكيّ الهابط. جنحتُ نحو الكتابة أكثر من التلحين، ولديَّ ثلاثة كُتُب منتشرة ومعروفة. التلحين أيضاً حبٌّ هائلٌ مثل الشِّعر الذي أكتبه، والأغاني تُوائم بين الكلمة أو الشعر والألحان. هناك تقاطعٌ بين العالمَين الخلّابَين.
الثغرات في عالم الثقافة كثيرة، كيف تحدّدين هذه الثغرات وكيف تغذّين نفسك ثقافياً؟
سؤالكِ نوعيٌّ يعكس عمقكِ. سأحدّثكِ عن خللٍ جزئيٍّ في المشهد والوسط الثقافيين في بلدنا حتى لا ننزلق إلى مطب التعميم والإطلاق في الحديث عن الثقافة بعامّة. ثمة ثغراتٌ كثيرة لا بدّ من معالجتها، وثمة جوانب مُشرقة وإيجابية كثيرة جداً وهائلة في المقابل، لنكن موضوعيين. سأتحدّث ههنا عن بعض أوجه الخلل: ما يُعرف بالـ”شللية” عموماً على سبيل المثال، والمحسوبيات والتبعيات والهيمنات أو محاولات السيطرة النرجسية والمزاجية في بعض مجالات العمل عموماً مع وجود إستثناءات بطبيعة الحال فكثيرون يحترمون أنفسهم ويحترمون الآخرين ويقدّرونهم كثيراً ويتحلّون بالنبل والنباهة والذوق الرفيع الرائع، الذكورية أحياناً (هذا تخلّفٌ جليّ)، الذاتية المفرطة والغيرة والحسد لدى أصحاب العقول الصغيرة والصغرى، الميل إلى التفكير بالمصلحة الذاتية فحسب بدلاً من التعاون والتعاضد والاتحاد في سبيل أفقٍ ثقافيٍّ أوسع يفيد الجميع ويفيد الثقافة والإنسان والمجتمع والوطن، إلخ. غير أنّ ذلك يعود أيضاً إلى وضع البلد المتأزّم والمنهار عموماً في ظل نظامٍ طائفيّ مهترئ وانهيار سلّم القيَم وحكم منظومة فاسدة وقحة إلى أبعد مدى، والخلل بذلك بنيويٌ وجوهريٌّ. هذا الاعوجاج الناتئ ينعكس على حياة اللبنانيين عموماً ومن ضمنه الوسط الثقافي جزئياً.
الدولة غائبة ومنهوبة، لا تقوم بواجبها تجاه مثقّفيها ومبدعيها الشباب والكبار وهذا غير مقبول، والوسط الثقافي لا بد من معالجة ثغراته المرحلية.
أقول قولي هذا بمحبةٍ كبيرة غامرة وانطلاقاً من الحرص على المشهد الثقافي اللبناني وأكنّ كل الودّ لكل مثقفٍ راقٍ وإنسانيٍّ يده الصادقة ممدودة للتعاون والدعم الفعليّ متى استطاع. في المقابل، كما أشرتُ أعلاه، ثمّة جوانب ساطعة جداً وبهيّة في المشهد الثقافي اللبناني حتى في أحلك الظروف والمثقف اللبناني الحقيقي مميّزٌ وجريء وراقٍ. نغذّي أنفسنا بالقراءة متى استطعنا وبتلقّي المعرفة المتنوّعة من مصادر متنوّعة قدر المستطاع أيضاً لمحاولة الإسهام في بناء بعضها تفاعلياً أيضاً وبالتأمّل.
إلى أين تتجه هالة نهرا، وأين كانت بدايتها، وكيف اتجهت إلى الشعر، وكيف تدرجت نحو الشعر المحكيّ، وأين الموسيقى في عالمها؟
نسبح في بحر الثقافة لنرتقي ونكون، والأهمّ من الوصول الرحلة والطريق. لديَّ أحلامٌ لا تعرف حدوداً. بداياتي كانت في فلك الموسيقى ومنذ طفولتي ثم مراهقتي كنتُ بارعة في اللغة العربية التي أعشقها. فتحت لي الأغاني في زمن الحرب كوّةً على الشعر والنثر. قرأتُ لشعراء كبار وآخرين جدد وشباب وفتنني المجاز في قصيدة النثر. ثم صرتُ أكتب تلقائياً وأطلقتُ ديواني الأوّل “الفرح عنوان الأبد” الصادر عن “دار الفارابي” بعدما نشرتُ قصائدَ ونصوصاً عديدة في صحف ومجلات بارزة جداً وشاركتُ في أمسياتٍ شعرية ومهرجانٍ دوليّ للشعر وتُرجم عددٌ من قصائدي إلى الألمانية والإنكليزية والإسبانية. ومثلما كتبتُ في اليوم العالمي للشعر فإننا نتنفّس الشعر كل يوم في ما نكتبه، وفي ما ننسى أن ندوّنه أو في ما لا يتعجّل التجسُّد بالكلمات. الشعر كما وصفتُه هو “مزاجٌ ونبضٌ وأوردة ورؤية ورؤيا.. وإصغاءٌ عميق لدبيب أصوات الحياة المقعّرة والطافية والكامنة.. ومحاولةٌ إبداعية تهدف إلى إعادة اختراع العالم وإعادة إحيائه على أسس جديدة أكثر إنسانيةً ورحمةً ورأفةً وعدالةً، وأكثر تشققاً عن فوران النور. الشعر يُكثِرُ التفتيش والحفر والالتماس والجسّ والمداعبة والملاعبة والدغدغة والبحث والالتقاط والتصوّر والتأمّل والاجتراح والخلق والتحليق عبر موجات الطاقة الكونية، ويُكثِرُ التساؤل وقد يخلخل الراسخ في مفاهيم سائدة. الشعر موقفٌ مضمر أو علني من العالَم والوجود، وإشارةٌ وعلامة واستباقٌ وثغثغة وحكمة ولعثمة وهبوب، وصرخةٌ وهمسٌ وجمالٌ يتمرّدُ وآخر منسَّق كسطر النمل فوق البياض… الشعر أجنحةٌ للفكر لكي يطير ويلامس القلب، وهو العَمود الفقريّ للأغاني والأناشيد والمحرّض على التجلّي واعتناق روح الجمال.. الشعر استحضارٌ واستشرافٌ وحدسٌ، ومرتجى حتى لو في مغطس اليأس!
الشعر أكثر من تعبيرٍ ومن فوحان ومن لهب مصابيح، وأكثر من صهيلٍ واخضرار وأكثر من كوّة في جدار العالم السميك، وأكثر من رسالة، وأكثر من خيال، وأكثر من وجهات نظر، وأكثر من تفنُّنٍ لغويّ وتنميق، وأكثر من تركيب ومن نوافير، وأكثر من ذاتية وأبعد من موضوعية. بالشعر تتجدّد اللغةُ “بيت الوجود”. الشعر هو الزفرة العيمقة التي يطلقها الكون، وهو المفاتيح التي بوسائطها ينجلي بتقطُّر الغامض والمجهول والمحجوب واللامنظور الخفيّ”. أكتب الكثير من القصائد بالفصحى وبالمحكية. الموسيقى موجودة في النقد والمتابعات والمقاربات وأيّامي وفي أوردتي ودمي.
عندما جالت هالة في بلاد متعددة، عن ماذا كانت تبحث؟ وكيف تبلورت الإجابات في كتاباتها؟
أحبّ السفر مرفقاً بصحبةٍ مؤنسة ونبيلة وأحبّ كثيراً اكتشاف العالم، إنها متعة رهيبة. سافرتُ إلى بلدانٍ عدّة، سأعطيكِ مثالاً: سافرتُ ذات مرّة إلى فيينا في النمسا، ومن فيينا ذهبتُ إلى سالزبورغ لزيارة بيت المؤلّف الموسيقي العبقري وولفغانغ أماديووس موتزارت الذي أحبّه كثيراً. ثمّ عدتُ إلى فيينا؛
كانت هناك – في أحد المسارح المعروفة- حفلة نادرة، اشتملت على تأديةٍ لبعض أعمال موزارت الهائلة، ومحاكاة رهيبة لعصره سواء في اللباس (ملابس ذات طراز خاص) والشَّعر المستعار، أو في أسلوب التقديم والعرض والطقوس. كانت السهرة متلألئة بين المسرحيّ في شقّه الاستعراضيّ خصوصاً، والموسيقيّ العريق، والسياحيّ الرفيع. الحفلة بذاتها شكّلت سفراً مذهلاً في الزمن إلى الكلاسيكية التي درسناها سابقاً نظرياً. على الكراسي عشّاق موزارت من الصين، واليابان، والولايات المتحدة، وفرنسا، والعالم العربي… الكلاسيكية امتزجت هناك باللغز الذي يفتن والأحاجي المثيرة للاهتمام. إنّها أكثر من رحلة فنّية عبر الزمن، نظراً لاشتمالها على أبعادٍ وخلفياتٍ أخرى، لا تخفى عن الباحثين وقرّاء التاريخ في القرن الحادي والعشرين. سأعطيكِ مثالاً إضافياً: ذهبتُ إلى قصر “دولماباهتشه” في تركيا في إسطنبول للبحث عن البيانو الفرنسي الكريستاليّ الصنع الذي قرأت عنه Gaveau Piano بهيكله الشفاف الذي يسمح بمراقبة آلياته الداخلية، وفقاً لما اطّلعت عليه عبر الإنترنت قبل سفري.
ابتداءً من العام 1856 أقام بالقصر المذكور 6 سلاطين عثمانيين، وبعدما أعلن النظام الجمهوري في تركيا المعاصرة سكن مؤسس الجمهورية القائد العلماني مصطفى كمال أتاتورك في القصر لمدة 4 أعوام بصورةٍ غير متواصلة، علماً بأنه واصل أعماله في القصر إلى أن توفّي فيه، وقد صار القصر “قصراً متحفياً” عام 1984 مع المحافظة على أثاثه الأصلي كما كان في العهد العثماني. تكتشفين التاريخ هناك أمامكِ: التاريخ السياسي والثقافي والفنّي. بين الباروك Baroque والكلاسيكية الجديدة، و”الروكوكو” (حركة فنية أوروبية في القرن الثامن عشر، تضم فن العمارة والفنون الزخرفية والتزيينية والرسم والنحت)، والأسلوب البلاطي التقليدي العثماني، تتأرجح الطُرُز المعمارية في القصر، فضلاً عن ميزات البيت التركي التقليدي… كل ذلك في خلاصة جديدة للعمارة تقوم على مزج العناصر الفنية والثقافية العثمانية بأساليب غربية. كذلك مررتُ بمطار فريديريك شوبان حيث تقدّر كثيراً بولونيا مبدعيها وطليعتها والغرب كذلك، وسافرتُ إلى بودابست في جولة أوروبية، وسلوفاكيا (براتيسلافا)، وتونس، وغيرها. عن بودابست على سبيل المثال كتبتُ أنها مدينة تستحليها كنغمٍ يطفو، كلوحةٍ مفاجئة تدفعك إلى الحلم، كحلبة، كنص يكتنز بالمجاز والالتباسات، وتتمنى البقاء فيها وقتاً أطول وإعادة الكرّة بلا حدّ. عن تونس ولها كتبتُ قصيدةً من قلبي وعن فيينا وسالزبورغ وموزارت.
ما هي نصيحتك للمهتمين بالفن والموسيقى؟ ما هي مشاريعك المقبلة؟
المهتمّون بعمقٍ للفن والموسيقى – وأنا أعدّ الشعر أيضاً ضمن الفنون وهو فنّ اللغة ويختزن تفنُّناً لغوياً رفيعاً، والأدب الذي يحوي تفنُّناً أو أي كتابة تحوي تفنُّناً تندرج في خانة الفن أيضاً. الشعر يخدم الغناء والأغنية والمسرح والسينما-… على المهتمّين أن لا يركنوا إلى السائد والرائج والمنمذج والسطحيّ، بل لا بدّ من التنقيب عن الجماليّ والإبداعيّ، وعن المغايِرِ أيضاً والغائر في المعنى والجديد والشفيف البسيط في المقابل. ثمّة انحطاطٌ راهناً عموماً بعض أهدافه تجارية، تروّج له غالبية وسائل الإعلام العربية (الإذاعات والتلفزيونات بمعظمها، مع وجود إستثناءات محترمة) من جهة، كما أنّ هناك التماعات وأعمالاً جميلة معدودة من جهةٍ أخرى.
كذلك، على المهتمّين بالفنون أن يُسهموا إذا استطاعوا وقدر الإمكان في اجتراح فضاءٍ رحب يحتضن الفنون ويدعمها بالفعل، لا قولاً فحسب. الفن بحاجة لدعمٍ واحتضانٍ على المستويات كافة (على الصعد المادية والمعنوية…) لكي ينهض. الفن مرآةٌ حضارية. كما أنّ على الذين يمارسون الفنون أو يحترفونها أن لا تطغى لديهم الحرفة على الفنّ والتفنُّن الإبداعيّ؛ في الحرفة يسودُ النمطيُّ المرتكز على الأسس والقواعد والمنطق والعقل. أما الفن، فيشكّل الانطلاقة الابداعية الذاتية (أو الجماعية أحياناً) التي تتجسّد متجلّيةً في التعبير عن الذات نحو مداها الأقصى. الفن يتمثّلُ في اتّحاد الموضوعيّ والذاتيّ، الطبيعة والعقل/ المنطق، الوعي واللاوعي. يعتبر تولستوي أنّ الإنسان من خلال الفن يبادل مشاعره مع كل البشر، ليس في زمنه فحسب، بل أيضاً مع الأجيال الحالية والمستقبلية، مثلما يبادل فكره من خلال الكلمة. الفن شيء كبير، حيويٌّ عضوياً للإنسانية، يُدرج في حقل الشعور تصوّرات العقل. والفنانون عليهم أن يجنحوا في التأدية نحو المواءمة بين الإحساس والتقنيات.
لديَّ ديوانٌ شعريٌّ جديد مقبل بعد ديواني الأوّل بعنوان “الفرح عنوان الأبد” وكتابٌ نقديٌّ وثقافيّ (سيكون الكتاب الرابع) بعد كُتُبي، “إضاءات موسيقية وفنية” و”موسيقات وفنون وثقافات” وإسهاماتي المشتركة في سواها، لكنّ ذلك مؤجَّلٌ قليلاً بسبب ظروف البلد وكل شيء سيتحقّق في الوقت المناسب إن شاء الله، إضافةً إلى مشاريع وتطلّعات أخرى.