السياسة الداخلية عندما تصبح سياسة خارجية
بقلم: مصطفى أبو لبدة
إرم نيوز –
مضى نتنياهو، خلال الأيام الماضية، إلى آخر الشوط في تحدي الشارع الإسرائيلي، مقتنعًا بأن كل التظاهرات لا تزيد عن كونها طاقة صوتية مستهلكة.
غريب هذا الغياب العميق للسلطة الفلسطينية في رام الله عمّا يجري حولها في القدس، وتحديدًا في الكنيست الإسرائيلي، من صخب انقلابي يستنفر كل ذي صلة: صخب الإصلاح القضائي.
الوصف الإعلامي السيّار للمكاسرة التي أعقبت الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة هو “خطة الإصلاح القضائي” المثيرة للجدل، والتي اتفقت عليها الأحزاب اليمينية المتطرفة، وجعلت منها برنامج عمل تجري الآن محاولة تمريره في الكنيست، بمواجهة من أغلبية الشارع الإسرائيلي، ورفض أمريكي وصل حدّ التهديد بأكثر من لغة.
هذا الوصف التقني المحايد للأزمة الكبرى التي تتفاعل الآن في إسرائيل، تُقابله في مفردات التلاسُن اليومي، أوصافٌ ثقيلة غير مسبوقة، بدءًا من القول إنها نُذر حرب أهلية، وإرهاصات لتحلّل الدولة، (بحسب وصف رئيس الدولة إسحق هرتسوغ)، وانتهاءً بتحذير الإدارة الأمريكية من إنه فراقٌ بين البلدين في القيم وبالتالي في المصالح.
ورغم كل ذلك، مضى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، خلال الأيام القليلة الماضية، إلى آخر الشوط في تحدي الشارع الإسرائيلي، مقتنعًا – كما يبدو- بأن كل التظاهرات لا تزيد عن كونها طاقة صوتية مستهلكة.
ما أفصح به بايدن إليَّ هو – في حدود ذاكرتي- أول موقف لرئيس أمريكي يعارض فيه بهذا الوضوح، تغييرات في الآلية الديمقراطية في إسرائيل.
كما أنه يبدو مقتنعًا بالممارسة أن تهديدات إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منزوعة منها شحنة التنفيذ، لأن الرجل أضعفَ مِنْ أن يغامر بمواجهة مع لوبيات اليهود والصهيونية المؤيدة لنهج نتنياهو، والتي تمتلك من أدوات إطاحته (بايدن) قبل نهاية مدته، ما يجعله قبل المواجهة المفتوحة يعدّ للمائة.
وإلا ما الذي يتحصّن به نتنياهو وهو يُعلن ويتصرّف على قاعدة أنه حان الوقت لإسرائيل أن تخرج من التبعية الكاملة لواشنطن وتتصرف كدولة لها سياساتها الداخلية الخاصة؟ وأن لها أيضًا الحق (وربما القوة) لتتصرف تجاه إيران – مثلًا، بمواقيتها الخاصة، وإمكانياتها غير المرتهنة بالكامل للولايات المتحدة، كما حصل في غزوة المسيّرات لضواحي أصفهان نهاية الشهر الماضي.
في بعض أوجه خلاف الرأي بين حكومة نتنياهو وإدارة بادين، أن الأخيرة تؤمن أن السياسات الداخلية لحلفائها هي سياسات خارجية، وهو ما يبدو أن نتنياهو يستشعر الآن قوة ذاتية تجعله يرفض هذا المبدأ ويغامر بإعلان رفضه.
في رسالة من 46 كلمة بعث بها الرئيس الأمريكي إلى كاتب العمود المعروف في “نيويورك تايمز”، توماس فريدمان، جوابًا على تساؤل إن كان جو بايدن يستطيع إنقاذ إسرائيل من جموح نتنياهو؟، ونشرها، يوم 12 فبراير الحالي، تحت عنوان “رسالة واضحة لإسرائيل”، قال فريدمان إن ما أفصح به بايدن إليَّ هو – في حدود ذاكرتي- أول موقف لرئيس أمريكي يعارض فيه بهذا الوضوح، تغييرات في الآلية الديمقراطية في إسرائيل.
الحيثيات المتفرقة لا تترك مجالًا واسعّا للجدل في أن ما يحدث الآن في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية هو شيء غير مسبوق.
فريدمان أسبغ على موقف بايدن من نتنياهو الصفة التاريخية، ليأتيه الرد في اليوم التالي بقدرة الأخير على تمرير القراءة الأولى داخل الكنيست لبرنامج إصلاح القضاء، كان اختراقًا مفاجئًا من نتنياهو جعل خصومه الكثر يصفون ما حصل بأنه “الإثنين الأسود”.
حجّة بايدن في رفض موقف نتنياهو واليمين الإسرائيلي من برنامج إصلاح القضاء هي أنه ردّةٌ ديمقراطية غير مستكملة لشرط الإجماع الوطني، وحجّة نتنياهو وحكومته هي أن الإصلاح القضائي يُلغي تعسفًا كانت اتخذته الحكومة والكنيست قبل 25 سنة.
لكن الأهم من لعبة الذرائع والتخريجات هذه، هو أنها المرة الأولى في تاريخ العلاقات الإسرائيلية الأمريكية التي ينتقل فيها الجدل والتهديد والمعاندة، إلى الحديث العلني الرسمي عن خروج إسرائيل من التبعية المطلقة لأمريكا، مع كل ما يعنيه ذلك ويترتب عليه من تداعيات وحسابات لا يبدو أن واشنطن كانت مستعدة لها، لكن نتنياهو ظهر وكأنه كان جهّز نفسه لها.
فيوم أمس الثلاثاء، سرّبت صحف عبرية محسوبة على نتنياهو أنه كشف، الأربعاء الماضي، في مؤتمر لحزب الليكود أن القانون الأساس للدولة، كما جرى تقديمه قبل أيام، سيجعل التلمود (الكتاب المقدس) قانون الدولة، وفي نصوص هذا القانون أن إسرائيل نشأت وتعيش على أساس التوراة والتقاليد اليهودية.
وأكثر من ذلك، فقد وعد نتنياهو رئيس كتلة الحريدي في الليكود، يعكوف فيدر، بأن يجعل التقويم العبري، الذي يعتمد القانون اليهودي، التقويم الرسمي لإسرائيل.
وكأنّ هذا التسريب الموقوت يقول: ليفعل بايدن ما تطاله يداه.
كل هذه الحيثيات المتفرقة لا تترك مجالًا واسعًا للجدل في أن ما يحدث الآن في العلاقة الأمريكية الإسرائيلية هو شيء غير مسبوق، والباقي مستجدات ستشهدها أو ستشارك بها بقية الدول المعنية بالنظام الإقليمي الجديد في الشرق الأوسط، كما تكثّف الحديث عنه مؤخرًا.
نتنياهو في عودته وتشكيله حكومته السادسة بات يتصرف بمنطوق ومضمون أنه يتفلّت خارج الوصاية والميانة الأمريكية.
منْ يتذكّر ما حصل في بلدية تل أبيب، في شهر سبتمبر الماضي.. قبل أسابيع من الانتخابات التي أعادت نتنياهو للسلطة؟
ما حصل أيامها – وربما سقط من الذاكرة- هو الضجة التي رافقت قرار بلدية تل أبيب بأن تستبدل الخرائط الحدودية للدولة والتي تعلقها المدارس في الصفوف الطلابية، وقيل في حينه أن قرار استبدال الخرائط جرى بضغط أمريكي.
فقد قررت البلدية أن تسحب من المدارس خرائط الدولة التي تُظهر حدود إسرائيل من البحر المتوسط حتى نهر الأردن – متضمنة غزة وسيناء والجولان، وهي الأراضي التي احتلتها في حرب حزيران 1967.
سحبتها البلدية ووضعت مكانها خرائط ما يسمى بـ”الخط الأخضر” وهو خط الهدنة التي أعقبت حرب 1948.
يومها وفي سياقات الغموض، الذي يطبع الكثير من الترتيبات غير المكتملة لمستقبل الأراضي والقضية الفلسطينية، لم تأخذ قضية تبديل الخرائط المدرسية حقوقها المفترضة في المراجعة والتقييم والتشبيك السياسي، كان سيقال إن الولايات المتحدة تدخلت في أجواء الانتخابات الإسرائيلية لغير صالح نتنياهو واليمين الإسرائيلي.
لكن الجديد اليوم، هو أن نتنياهو في عودته وتشكيله حكومته السادسة بات يتصرف بمنطوق ومضمون أنه يتفلّت خارج الوصاية والميانة الأمريكية التي ربما لم تتخيل يومًا أن رئيسًا للحكومة الإسرائيلية يمكن أن يفكر بجعل التلمود القانون الأساس للدولة.
في نصوص الذي قاله نتنياهو، ويقصد به الولايات المتحدة والفلسطينيين: “إنهم يريدون إقامة دولة فلسطينية إلى جانبنا، وتحويل إسرائيل في غضون ذلك إلى دولة ثنائية القومية، يهودية وعربية داخل حدودنا الحقيقية.. قانوننا الأساس الجديد سيمنع مثل هذا الوضع”.
أليس غريبًا بحق، هذا الغياب العميق للسلطة الفلسطينية في رام الله عن كل هذا الذي يجري خارج مقرّها؟