ديوان سرجون كرم: شعرنة الفكر النقديّ والفلسفة إبداعياً

النشرة الدولية –

بوسطجي – هالة نهرا –

في ديوانه “سمكريّ الهواء العليم بكل شيء” الصادر عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في عمّان وبيروت، يُسائل نقدياً الشاعر اللبناني الألماني سرجون كرم “هذا الشعب البكّاء على امتداد خريطةٍ مقعّرة” عن بديله عن الوطن (؟) كي يقتلوه ويأكلوه (!) على حدّ تعبيره، كفرضيةٍ عبثية لاواعية تنمّ عن غير المفكَّر فيه شعبياً، وتشفّ عن حُمقٍ جليّ وتهوّرٍ خطير… أو ربما بوصف الأمر جائزاً واقعياً نسبياً كاحتمالٍ لدى بعضهم المدرِك (عن سابق تصوّرٍ وتصميم) في ظلّ عصفِ المؤامرات الخارجية والداخلية في آنٍ، وانسداد الوعي جزئياً، هذا الوعي الجمعيّ المشوَّه السقيم والمُسقِّم… وحياة استلابٍ، وانقلاب جزءٍ كبيرٍ من المفاهيم وتَشظّيها، وأزمة الهوية والانتماء، وانهيار سلّم القيَم الإنسانية والوطنية، مُفتتحاً نصّه الشعريّ بأسئلةٍ جوهريةٍ كبرى مُلِحّة، تتوقّف في أبعادها وأغوارها على مفهوم الوطن والأرض، والجمال الأنثويّ البسيط العاديّ الحرّ المفتون بذاته وبتفاصيله الصغيرة والصغرى… هذا الجمال الذي باستطاعته أن يتملّى ذاته المنقِذة مستبطناً في مناحٍ منه حرّية المرأة (والإنسان) وجمالياتها المشتركة (مع الطبيعة، أو مرآةً للطبيعة) الناجية حكماً في أجزاءٍ منها، أو التي يمكن أن تُنجَّى من هَوْل الخراب العظيم وفيض المأساة وتتفتّح للحبّ والدهشة والتأمّل الملاذيّ، مثل قمرٍ مؤمِّلٍ يهلّ خلف تلال القمامة والأسى والقبح الغامر. كأنه تفاوُح الغاردينيا في صميم بيئةٍ مهترئة (سؤال شعري وفلسفي إستِطيقي آسر)… وفي خضمّ التاريخ والجغرافيا في منطقةٍ منكوبة وملكومة وسؤال الإنسان والشعب؛ (الشعب بصيغة المفرد أو الجمع) الذي يُستخدَم بعضُه جنودَ شطرنج ووقوداً في حروب وصراعات ونزاعات وتقاطعات وتواطؤات “الكبار” البراغماتية المصلحية… وصولاً إلى تيئيس بعض النخب المبدعة في غيهب الإعوجاج البنيويّ الذي ينعكس على الحياة اليومية العليلة ومفاصلها، ويمسّ الذهنيات والصحة النفسية أو العقلية بالسوط بطبيعة الحال، مؤدّياً إلى التهلكة: (“هل لديكم – أيها المنبوذون من الموت- إمرأة خالية من لوثة الشعراء المنتحرين (…)؟”- ص 7).

هكذا اختار الشاعر سرجون كرم أن تكون قصيدته الأولى “للمنبوذين” مكتوبةً “باللغة العادية” حداثياً لتحث القارىء على التفكير العميق الممحَّص والإجابة تأويلاً وبحثاً وتأمّلاً، ولئلا ينزلق الشعرُ – في التنميق والفتنة اللغويَّين- إلى مطبّ الهامشيّ في ترفِ ديكوراتٍ بلاغية فرعية وثانوية. هكذا ينخرط الشعرُ فكرياً في مساءلة الواقع الممتدّ المتناقض البليد أو المتفجّر المفخّخ بفجواته ودوّاماته وإشكالياته ومآزقه ومفارقاته، وندوبه التي تتسرّب إلى جِلد القصيدة علامةً ووثيقةً نقديةً إبداعية من نوعٍ آخر، ثائرة، توائمُ بين التلميح الحفّار دلالياً (المروحة الدلالية للأجوبة الكامنة خلف طبقات النصّ الشعريّ)، وبين التصريح التساؤليّ.

يذكر الشاعر في مجموعته الشعرية “البلاد التي يدفعُ سكّانها وسادةَ الأحلام أجرةً للنوم” وفيها “يحتفل المغنّي بعيد ميلاده وحيداً/ أمام شمعةٍ/ وكوب ماءٍ وسراب/ وأيقونةِ العذراء/ ويشكر في قلبه الطغاة/ الذين يقمعون الثورات ليعيش الشعر طويلاً…” (ص 17)، وحيث يُركَّب التاريخُ دابّةً في جغرافيا الخيال، ويُكتب للناس – فرداً فرداً- ذكرياتهم. هكذا يُضحَّى بالأحلام الكبرى الباهظة المجنّحة وبالحرّية (مقايضة الأحلام والحرية بالأمن والأمان!)، وهكذا تقوَّض وتُقمع التحوّلات الجذرية وحركات التمرّد والثورات، في بلادٍ باتت تعتنق المجاز أثراً للتأبُّد والديمومة وعلامةَ حياةٍ وجسراً وسبيلاً إلى صون التاريخ – الممسوس بلوثاته وجَوْره المتظلِّل بالمقدَّس- والذاكرات والذات الجمعية من خطر الاندثار والتلاشي في ظلّ الطغيان من جهة، وسطوة المطلَق من جهةٍ أخرى. هكذا تُحرِّر الاستعارة الكائنَ من قيوده لعبور رحابة الممكن في الزمان الآتي، وتتحوّل إلى بديلٍ مؤقت عن تحقُّق الصيرورة المعرقَلة.

بموازاةٍ لغةٍ أدبية شعرية وافرة وغزيرة غامزة، ثرية بعناصر جمالية مغايرة للرائج عموماً، وموسيقية كامنة أحياناً في بعض بطائن اللغة، وبومضاتٍ رمزية وأخرى واقعية راهنة وفكرية، ونبضٍ تتزاوج فيه الفجاجة الواضحة، والطزاجة، والطيف الرومانسيّ بل الرومنطيقيّ الذي يتمظهر لماماً على اعتباره أساساً خاصيةً متأصّلة في شخصية الشاعر (يرشَحُ بها نصّه مثلما يُرشح العرقُ كما في قصيدة “هيام”- ص 38)، ومروره بالمنعرج الديني والتاريخي ومراتع الخرافيّ والأسطوريّ… وبموازاة سخاءٍ تعبيريّ مدروس لا يبذّر المعاني ولم يقع في فخّ إطنابٍ نمطيّ، يتجلّى سرجون في الإيجاز غير المخلّ والوافي في تقشّفٍ لغويّ متعمَّد تتكثف فيه الدلالة اليسيرة كأنما ليُناولها بالملعقة للقارىء: “أقرع الباب…/ يفتح…/ أدخل…/ أستعير قلبي/ وأخرج.” (قصيدة “الأفعال الخمسة على الحروف السبعة”- ص 26).

للعديد من قصائد سرجون إيماءاتها وتمظهراتها الحدسية في الرؤية كما في قصيدة “رؤيا” (ص 61): “الآن أفتح قنبلتين لا عينين، تريان العالم جمراً/ وبلادي سواداً/ تغزل للخراب رؤيا”… وقصيدة “تعالي بفأس، في يدي الغابة”: “أعود من غابة الشعراء كما دخلتُ/ ذئباً منفرداً مزنّراً بالرمل المتحرّك في التأويل والخرافة./ موعدي دائماً دقيقتين قبل أن يقرع جرسُ الكنيسة/ قبل أن تطلّي بجهازك العصبيّ/ يقلع شروش طريق الرحلة/ و”يحكش” عين التوقّع والتنبّؤ والمصيبة/ أعود من غابة الشعراء كما دخلتُ/ ذئباً منفرداً لا يخاف من شيءٍ يخاف الموتَ/ ألقى نظرة من بعيد وقال: سلاماً./ ها أنذا أصنع كل شيءٍ جديداً/ مسرنماً أمام حمّام نساء يظهرن لي في الحلم في صورة الدنيا/ يغنّين ويبتسمنَ/ أنني القصيدة التي تكتب بشراً (…)”.

يكتب الشاعر موقفه من التأخّر والحداثة غير المتحقّقة في بلاده (والنظام المتخلّف) ولأنّها من “الفراغ” على حدّ تعبيره، فهي “تبحث عن آلهة”/ يولد في اللاشيء الفصام…” وإنّ التكرار الجزئيّ سريعاً ههنا لمفردات “البلاد” و”الفراغ” والـ”آلهة” محفوفٌ إلى حدٍّ ما بنزعةٍ مينيماليةٍ أسلوبية (موسيقية في الأساس) Minimalisme تتجسّد في الشعر وتمثّل توكيداً للمعنى المتكرّر في الواقع أصلاً (لا في القصيدة فحسب)، كما تكتسي القصيدة بُعداً طليعياً.

يفاجئنا سرجون ببوحه الشفيف الذي لا يخشى أن يصغّره، بتواضع الكبار: “أكتب الهايكو/ مثل حشرةٍ/ كتبَ الهايكو عنها./ لم أرَ كائنًا يلبط حائط جنّته/ مثل الشاعر العربيّ”. أمّا التجلّي الإبداعيّ الرفيع والموغل رؤيوياً لدى سرجون فيتبدّى في قصيدة “سيرجع الطفل يوماً” (ص 69) ذات الأبعاد الفلسفية التي تُذكّرنا بمعنى ما، في الجوهر والكُنه، بقول هيرقليطس الفلسفيّ: “الدهر طفلٌ يلعب النرد”، وفي قصيدة سرجون المذكورة أيضاً تحويرٌ متّقد ومتبصّر ومصيب لفكرة العَوْد الأبديّ الفلسفية يجعلها أكثر بهاءً منها ومن التناسُخ في آنٍ في خلطةٍ يجترحُها الشعر، تُغّير مقادير “المكوّنات” في الخلطات السابقة، لتفضي إلى نتيجةٍ وخلاصةٍ مغايريتين: “طبعاً سيرجع الطفل يوماً/ إلى الأغنية التي خرج منها…/ سليماً/ من دون عكّاز/ ولا ضمّادة جروح/ (…)/ طبعاً سيخبر أمّه الأخرى على الطرف الآخر/ أنه كان قصيدة كتبها رجلٌ طاعن في السنّ/ يجلس فوق غيمةٍ/ فتجسّد…/ وغاب قليلاً كي يتمدّدَ/ في أمّةٍ يقال إنّ لها شجراً في الجنّة/ تنمو عليه النساء ثمراً عضوياً/ خالياً من سكّر الحيض/ فتبدّد قبل أن يفترسه جرادُ الديمقراط/ وبيرانا الديكتاتور/ واليمين الذي يعادي النجاح/ واليسار الذي يتوعّد نفسه أن يعدَ الآخرين/ طبعاً سيرجع إلى الأغنية التي خرج منها/ حيث عملاق الطفولة أجمل من فكرة التقمّص/ وأبهى من هرٍّ وليد رأى فراشةً للمرّة الأولى/ وأكبر من أمم الأرض جميعاً،/ يعجن الهواء بلاداً على شكل طير/ وينفخ فيه”.

يستحقّ ديوان سرجون كرم أكثر من قراءةٍ متأنية تتّخذه أحد المتّكآت المتوافرة، ودراسةً نقدية واسعة لاحقاً. لا يُختصر الديوان بمقالةٍ نقدية تضيء سريعاً للضرورة – بعمقٍ أمين وتواضعٍ وبشغفٍ شعريّ وثقافيّ نقديّ عام مُواكب لكمٍّ محدَّد (فقط) من النوعيّ المتقطّر- على محطّاتٍ معدودة متلألئة بارزة فيه وإحالاتها وبعض الدوائر الواقعية والفكرية والفلسفية المتصلة بها في تأويلي (وقد تكون لدى آخرين تأويلات أخرى مختلفة وهذا طبيعي، ذلك أنّ العديدَ من المعاني حمّالُ أوجهٍ). بتقييمي فإنّ ديوان سرجون كرم هذا في شعرنة الفكر النقديّ والفلسفة على جانبٍ كبير من الأهمية في الشعر اللبناني والعربي الحداثي في القرن الحادي والعشرين. هذه الكتابة الإبداعية أيضاً تعويذةٌ ضدّ الألم والوجود الذي أمسى كحائطٍ أصمّ، ومحاولةٌ قفزت فوق النمطيّ في الحداثة الشعرية العربية لتركب القصيدة في هوادجَ عصريةٍ تنتسب إلى نبض الساعة، ولتحاكَ أثوابُ المعنى على نولٍ طليعيّ.

زر الذهاب إلى الأعلى