الحرب والازدحام واللامساواة
بقلم: د.جواد العناني
النشرة الدولية –
عربي 21 –
نشر موقع (إي لايف) أو (eLife) دراسة موسومة بـ”هل يرتبط سوء توزيع الثروة واللامساواة بالأوضاع الصحية للمجتمعات”. وفي الدراسة التي قام بها ثلاثة باحثين مختصين بعلم النفس، تبين أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين سوء الصحة والمعاناة من الأمراض المزمنة من ناحية، وتدني درجة الفرد على السلم الاقتصادي الاجتماعي. وهذا يتنافى إلى حد كبير مع المقولات الشائعة، أن الأغنياء هم من يبدون دائماً زائدي الوزن ويعانون من السكري وتصلب الشرايين والجلطات.
وقد تبين أن الأغنياء يزداد وعيهم الصحي، ويجدون الأبواب مشرعة أمامهم لكي يحصلوا على تأمين صحي ممتاز، ويلاقون الرعاية الصحية الاستباقية واللاحقة، ما يمنحهم الفرصة لكي يتمتعوا بنوعية حياة أفضل بكثير من الذين يكدحون لتأمين دخل يكفي لسداد الفواتير في أواخر كل شهر، ويقبلون على الأطعمة الشعبية، ولا يخصصون وقتاً للتمرين والتمريض، ما يجعل إمكانية منحهم تأميناً صحياً متميزاً غير واردة، وتوفير الرعاية الصحية الجيدة لهم غير ممكن.
لقد دخل علماء النفس على خط الاقتصاد، وأبرزوا هذه النقط المهمة بناءً على دراسات محصورة في مجتمعات صغيرة، مستخدمين الوسائل الإحصائية الحديثة من قياس توزيع الدخل، إلى متابعة الإصابة بالأعراض الصحية التي اختاروها، لتكون معياراً يوثق العلاقة بين مستوى الدخل من ناحية، والتعرض لهذه الإصابات من ناحية أخرى.
وقد يثير بعض الإحصائيين الكثير من التساؤلات عن تمثيل العينات المختارة للشعب كله في أي بلد. وقد يختلفون مع الباحثين أصحاب الدراسة في أن الوضع في الولايات المتحدة قد يختلف عن باقي دول العالم.
ولكن لا أحد يستطيع أن يرفض نتائج الدراسة ويضرب بها عرض الحائط. فلقد سبقت الدراسة المشار إليها أعلاه دراسة أخرى أجريت عام 2013 وعرضت على موقع “monitor on psychology” بعنوان “إغلاق فجوة الثراء والصحة” كتبته كيرستين وير (Kirsten Weir)، تقول فيه: “كم شمعة سيطفئ المواطن الأميركي الذي يتوقع عمره كرجل أن يكون 76 عاماً، والمرأة 81 عاماً، وأي نوع من الحياة سيحظى بها مقارنةً برجل سويسري يقدر أن يعيش 79 عاماً، أو امرأة يابانية يتوقع أن تعيش 86 عاماً؟”.
ويركز المقال على فجوة الثروة والصحة بين الولايات المتحدة والدول الغنية الأخرى. ففي الدول الأخرى يتمتع قطاع واسع من المواطنين بتغطية صحية جيدة ومتفوقة على نظيرتها في الولايات المتحدة.
ولا يستطيع الباحث هنا أن يستثني الدوافع السياسية وراء دراسة كهذه نشرت في بداية الرئاسة الثانية للرئيس باراك أوباما، الذي كان يناضل لتمرير قانون التأمين الصحي المعروف باسم “Obamacare”. وكانت مثل هذه الدراسات تدعم توجهاته في وجه معارضة شركات المستشفيات ونقابات الأطباء وشركات الأدوية العملاقة، ومن ورائها بالطبع أقطاب الحزب الجمهوري ومؤسسات الضغط السياسي.
ولكن هذا النقاش يفتح الباب على مصراعيه لإثارة الموضوع الأكبر والأشمل. ففي الاجتماع السنوي الذي عُقد في شهر يناير/ كانون الثاني لمنظمة “WEF” (المنتدى الاقتصادي العالمي World Economic Forum)، ركز على تقرير “أوكسفام” الذي يتناول عدم عدالة توزيع الدخل والثروة، والذي لاقى اهتماماً كبيراً في اللقاء السنوي لعام 2023 للمنتدى الاقتصادي العالمي، حيث تبين أن أغنى واحد في المائة في العالم حازوا ثلثي الثروة الجديدة التي خلقت منذ عام 2020، وبلغت قيمتها عند إعداد التقرير مقدار 42 تريليون دولار.
وهذا الجزء الذي حازه أصحاب الحظوظ الواحد في المائة يساوي الدخل الذي حصل عليه التسعة وتسعون في المائة الباقون. ويمضي التقرير ليؤكد أن أغنى واحد في المائة قد نالوا حوالى نصف الثروة الجديدة التي تكونت خلال السنوات العشر الأخيرة.
لا شك في أن مثل هذه الأرقام تثير القلق. فالأدلة تقول إن ظاهرة التفاوت الفاحش في الثروة والدخل لا يفصل بين الدول الغنية والدول النامية وحسب، ولكنه أيضاً يُري مقدار التفاوت داخل الدول نفسها. والأنكى من هذا كله، أن الفقراء يزدادون فقراً، والأغنياء الكبار يزدادون غنىً وقوة ولؤماً.
ولقد تابعت باهتمام كل هذه الضجة الكبيرة التي صاحبت الحرب في أوكرانيا، أو على أوكرانيا، وتنادت دول الناتو الغنية لكي يمدوا الأوكرانيين بالسلاح والعتاد والمساعدات، كلهم يريد لأوكرانيا أن تحارب وتتصدى للجيش الروسي، وكلهم يريد أن يزيد من تمكين الجيش الأوكراني بأسلحة دفاعية وهجومية. ولكن كلهم ينتظر الآخر ليفعل ذلك.
وتابعت أيضاً ردّ الفعل على زلزال تركيا وسورية الذي أودى بحياة حوالى 48 ألف شخص حتى منتصف الأسبوع الحالي، وشرّد الملايين خارج بيوتهم، وترك مئات الآلاف من الأطفال معرّضين للبرد الشديد القارس دون مأوى أو غطاء تحت السماء. والمساعدات لم تصل إلى شمال سورية إلا متأخرة، لأن البعض غير راضٍ عن الأوضاع السياسية والعسكرية هناك. وما دخل هذا الأمر بأوضاع المساكين؟
إن أعداد اللاجئين والمقتلعين من بيوتهم داخل دولهم أو خارجها يفوق المئة مليون في العالم. واللاجئون الذين يفرون من وجه الفقر والضنك، ويلقون بأيديهم إلى التهلكة في عرض البحار وبواسطة سماسرة من آكلة لحوم البشر والمتاجرين بقطع الغيار البشرية. لا يمكن إلا أن يعكس حجم الإهمال الذي يؤدي إليه جبروت الغِنى الفاحش والفقر المدمي للكرامة الإنسانية.
وقد يقول البعض إن أعداد الناس على وجه الكرة الأرضية قد وصلت إلى أكثر من 8 مليارات نسمة، في الوقت الذي كان فيه عدد سكان العالم قبل قرن من الآن لا يزيد على مليارَي نسمة. هذا التسارع الفاحش في عدد السكان يجعل التنافس على الثروات والطعام والجغرافيا مريراً ومطبقاً لقاعدة الصفر، التي لا مكان فيها إلا للأنانية وحب الذات وإهمال ضعف حال الآخرين. هذا الاغتراب وسط الزحام يخلق حالة القلق وانغلاق فسحة الأمل أمام بلايين العباد التائهين في الدول الفقيرة والغنية.
وقد أجرى أساتذة في كلية الطب الشهيرة بجامعة “فاندربلت” بولاية تينيسي في الولايات المتحدة دراسة على الفئران لمدة عشرين عاماً، فبنوا قفصاً كبيراً ووضعوا فيه فأرين، ذكراً وأنثى، وسمحا لهما بالإنجاب، وبدأت أعداد الفئران تتزايد، لكن الباحثين حرصوا على أن يوفروا للفئران عنصرين أساسيين: الغذاء الكافي لهم جميعاً، ونظافة المكان، بحيث لا يضيفون إلى الضغوط النفسية للفأر بسبب الخوف من نقص الغذاء أو قذارة البيئة.
واستمر الفئران بالازدياد إلى أعداد كبيرة، ورغم الغذاء والنظافة، بدأت تظهر عادات غريبة في الزحام. فبدأ الفار بترك غذائه ويعتدي على غذاء الفئران الأخرى الأضعف ويحرمها الطعام. وبعد ذلك بدأت تظهر عصابات من الفئران تستقوي على الآخرين.
واستمر الحال حتى انقسم الفئران إلى فريقين، ودارت معركة كبرى بينهما قتل فيها عدد كبير من الجانبين. وبعد هذه الحرب الشاملة، انكفأت الفئران على نفسها، وصارت تتصرف بأساليب جديدة غير معهودة، حيث ظهر الشذوذ الجنسي والعزلة والانكفاء عند البعض الآخر، واللامبالاة.
وقد لاقت تلك الدراسة عند نشرها الكثير من الاهتمام. فهل سينجح العالم في بلورة نظام عالمي جديد أكثر عدالة ورحمة وتكافلاً، أم سينتهي بنا المطاف إلى حرب طاحنة بدأت بعض نتائجها التي تعلمناها من تجربة الفئران تظهر علينا حتى قبل تلك الحرب؟
إذا أردنا أن نعرف المزيد عن هذه المظاهر، فلنراقب السلوك البشري في المدن الكبيرة (Megacities) في العالم. وهنا تنكشف الحقيقة، إذ إن أكثر مدن العالم ازدحاماً هي شنغهاي (25 مليوناً)، بكين (22 مليوناً)، كراتشي (15 مليوناً)، جوانزو بالصين (19 مليوناً)، كينشاسا (17 مليوناً) وجنجن بالصين (18 مليوناً) وتانجين (14 مليوناً) ووهان بالصين (12 مليوناً)، القاهرة (20 مليوناً)، سان بارلو (22 مليوناً)، وشونكنغ (32 مليوناً)، إسطنبول (16 مليوناً) وغيرها.
هذه المدن فيها كل ما يمكن أن يخطر ببالك من مشاكل، ولكن بدرجات متفاوتة، لكن السلوكيات في أحيائها توحي بوجود العصابات والفتوات، والمتاجرة بالممنوعات وبالعيش في ظروف في منتهى التردي. وهذا لا ينطبق على كل المدن، ولكن لها كلها عالم لا تدري به الحكومات ولا تعرف عنه الكثير.
ما يجري في بعض تلك المدن يمثل حقيقة ما يجري على مستوى الكرة الأرضية. هناك دنيا تحت الأرض تذكرنا بما تنبأ به المؤلف البريطاني هـ. جي. ويلز في أقصوصة “آلة الزمان”، حيث تعيش فئة مرفهة هشّة مرعوبة فوق الأرض، ووحوش جائعة ضارية تحتها.
وأي زمان ذلك الزمان؟