لماذا يتذكر بوتين بيوتر ستوليبين؟
بقلم: طوني فرنسيس
موسكو كررت في أوكرانيا هجوم بكين على فيتنام وخروجها منها قبل 44 عاماً
النشرة الدولية –
قبل 44 عاماً، فعلت الصين الشيوعية ما فعلته روسيا القومية قبل سنة. في مطلع 1979، ولم تكن مرت أربع سنوات على الانتصار الفيتنامي الكبير على الولايات المتحدة، شنت الصين الشعبية هجوماً شاملاً على جارتها الشيوعية، فاخترقت حدوداً طولها 1600 كيلومتر متوغلة لمسافة تزيد على 30 كيلومتراً في كل الشمال الفيتنامي.
دخل البلدان الشيوعيان في حرب مدمرة دامت أشهراً عجز خلالها الجيش الأحمر الصيني عن تحقيق نصر على ميليشيات “الفيتكونغ” فاضطر إلى الانسحاب في مارس (آذار) من ذلك العام، مخلفاً وراءه آلاف القتلى ودماراً شاملاً في البلد الشقيق الخارج لتوه من حرب طويلة، لم تتوقف منذ أربعينيات القرن الماضي ضد “الإمبريالية والاستعمار” الأعداء الرسميين للصين.
لم يفهم العالم تلك الحرب الأخوية في حينه، لكن تدقيقاً بسيطاً في الحقائق التاريخية سيسهل فهم ما جرى. فالصين لم تهضم ببساطة قيام دولة تتصف برمزية نضالية عالية في محيطها الجيوسياسي، تتبع سياسة مستقلة على امتداد منطقة الهند الصينية وتقيم علاقات مميزة مع الاتحاد السوفياتي الشيوعي.
لم يقف تبني أطراف النزاع جميعاً للماركسية اللينينية حائلاً دون حرب سوفياتية – صينية ولا دون هجوم صيني ضد فيتنام. لقد ظهر أن حسابات المصالح القومية هي الأقوى، ومهما بلغت الأيديولوجيا من نفوذ، فإنها ستستخدم في تدعيم الرؤية القومية أو ما يجري تعريفه بالمصالح الجيوسياسية.
على أن الصورة لا تختصر بهذا الجانب فقط. شرح لي الفيتناميون خلال زيارة لي إبان الحرب نظريتهم عن المطامع الصينية وابتعاد قادة الصين عن مفاهيم الأممية، وبعد ثمانية أعوام كنت أستمع في بكين إلى رواية أخرى.
كان الصراع على أشده داخل القيادة الصينية في تلك الفترة (نهاية السبعينيات) وكان أبو الصين الجديدة دينغ شياو بينغ يكافح من أجل الانفتاح ويواجه خصوماً نافذين في الحزب والجيش، وربما جاءت حرب فيتنام مخرجاً للجميع، ينشغل العسكر وينصرف دينغ شياو بينغ إلى وضع أسس الصين التي نعرفها اليوم .
في الهجوم الروسي على أوكرانيا أوجه تشابه مثيرة مع الحرب الصينية “الرفاقية” المذكورة. البلدان كانا الركن الأساس في دولة الاتحاد السوفياتي المنحلة، تجمعهما مصالح وانتماءات عرقية ودينية قبل أن يوحدهما الحزب الشيوعي تحت قيادته. وبعد انهيار الحزب والاتحاد، استقلت الدولتان وبات من حقهما أن تختارا الطريق الأنسب لكل منهما من دون المساس بالسيادة وعلاقات حسن الجوار.
كان يمكن للبيريسترويكا الغورباتشوفية أن تقود العلاقات بين الجارين في هذا الاتجاه، فالصينيون الذين قادوا تغييراً في نظامهم من فوق فعلوها ونما اقتصادهم عبر الانفتاح على الغرب وتعايش النظامين الاشتراكي والرأسمالي في بلد واحد وبقيادة حزب واحد. ولم تعد الأيديولوجيا ولا المصالح الجيوسياسية العامل المحدد الوحيد في سياستهم، إنهم الآن مع فيتنام يتنافسان على مكاسب الاستثمار في رأس المال العالمي وانتهى كلاهما من الرغبة الملحة في الهيمنة على الآخر من جهة والخوف الدائم من أطماع الآخر من جهة ثانية.
لم تتحرك روسيا في المنحى الذي انتحته الصين. انهار الاتحاد وهيمنت المافيات المالية والأمنية على الحياة العامة. صحيح أن مجيء الرئيس فلاديمير بوتين مثّل لحظة أمل بنهوض روسي جديد، لكن سرعان ما هيمنت على سياسته تلك الرؤية القائلة بروسيا القوية التي ستنتقم “لأكبر خطأ استراتيجي” ارتكب في القرن الـ20 وهو “حل دولة الاتحاد السوفياتي”.
كان يمكن لروسيا الغنية بمواردها أن تشق طريق ازدهارها الذاتي وتنمي قدراتها الاقتصادية والمالية وتوسع إشعاعها الثقافي والمعنوي والسياسي، فتستعيد محيطها الجيوسياسي من دون حروب وتقيم معه أفضل علاقات الجوار بدل اللجوء إلى القوة والقهر كما فعلت في جورجيا عام 2008 ومنذ 2014 في أوكرانيا. لكنها بدلاً من ذلك أهملت عناصر القوة الذاتية الاقتصادية والأخلاقية، فخسرت جزءاً من حضورها في آسيا الوسطى والقوقاز لمصلحة الأميركيين والصينيين والأتراك، وهاجمت أوكرانيا لتخسر حياد فنلندا والسويد اللذين طلبا الانضمام إلى حلف الأطلسي الذي استعاد وحدته وقوته إلى الحد الذي جعله يجتمع في وارسو برئاسة جو بايدن على أنقاض الحلف القديم وبالأعضاء القدامى أنفسهم.
في مناسبة مرور عام على حرب أوكرانيا، لم يتغير شيء في المواقف المعلنة لأطراف الصراع. حرص بوتين في خطاب استغرق ساعة و45 دقيقة على تأكيد عزمه مواصلة المعركة حتى تحقيق الأهداف. خاض الرئيس الروسي مبارزة خطابية تذكر بالساعات الحامية للحرب الباردة مع نظيره الأميركي جو بايدن الموجود على بعد 800 كيلومتر من موسكو، في كييف التي وصل إليها بعد إبلاغ خصمه الروسي بالرحلة.
والواقع أنه على رغم الصراع المرير بين الطرفين، استمرت قنوات التواصل بينهما مفتوحة. قبل الاتصال الأميركي، اتصل الجانب الروسي بواشنطن لإبلاغها عن تجربة الصاروخ “سارمات”، وبعد إعلان بوتين تعليق مشاركة بلاده في معاهدة “ستارت 3″، حرص نائب رئيس المجلس الفيدرالي الروسي قسطنطين كوساتشيف على التوضيح أن “التعليق يعني الحفاظ على القوة القانونية للمعاهدة”، وقال نائب رئيس لجنة الدفاع في الدوما يوري شفيتكين إن ذلك “لن يؤدي إلى سباق تسلح نووي”.
التاريخ يشير بحسب صحيفة “أزفستيا” الروسية إلى أنه بـ”إمكان روسيا وأميركا الإصغاء لبعضهما وعدم تجاوز الخطوط الحمر”.
مع ذلك لا يمكن تجاهل خطاب الطرفين التصعيدي في الذكرى السنوية الأولى للحرب. قال بوتين إن الغرب “يريد إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، أي القضاء علينا مرة واحدة وإلى الأبد”، ويضيف “يعرفون أنه من المستحيل هزيمة روسيا في ساحة المعركة”.
كان بايدن الذي يزور أرض المعركة كما فعل سلفه أيزنهاور في كوريا، يستمع ليرد مساء اليوم نفسه من قلعة وارسو، واختصر رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان الرد بتسخيف خطاب بوتين ليقول: “لا أحد يهاجم روسيا. هناك نوع من السخافة في فكرة أن روسيا كانت تتعرض لشكل من أشكال التهديد العسكري من أوكرانيا أو أي طرف آخر”.
لكن جدية بوتين وإصراره على مواصلة المعركة المصيرية بالنسبة إليه، سيتأكدان في إشارته التي لم تثر كثيراً من الانتباه إلى السياسي الروسي بيوتر ستوليبين وإيمانه العميق بضرورة “روسيا القوية”. لم يذكر بوتين زعيماً سوفياتياً، ستالين مثلاً، وإنما عاد لعهد القيصر نيقولا رومانوف ليستحضر رئيس وزرائه ستوليبين الذي يعتبر أبرز رجالات الدولة في عهد القيصر الأخير.
في هذا المجال، يجدر التذكير ليس فقط بإصرار الشخصية المذكورة على الإصلاح لجعل روسيا أقوى، وإنما أيضاً بأن ستوليبين اغتيل عام 1911 وقيل إن المتآمرين كانوا من المحيطين به واستعانوا بأحد المعارضين الفوضويين لإطلاق الرصاص عليه. مفارقة أخرى لا بد من الإشارة إليها أن ستوليبين ولد في دريسدن بألمانيا، المدينة التي عمل فيها بوتين ضابطاً في جهاز الاستخبارات السوفياتية وقتل في كييف المدينة التي يريد بوتين الآن تطويعها.
ليس مفهوماً القصد الكامل من وراء استشهاد الرئيس الروسي بهذه الشخصية بالذات، لكن كثيرين يتحدثون عن خلافات في البلاط الروسي ربما كانت تصريحات رئيس مجموعة “فاغنر” من تعبيراتها، أما أقوال بوتين، فتنبيه مسبق من نتائجها، وربما تكون تصعيداً يستبق استعداداً للتفاوض .
قبل الخطاب، كان مسؤول السياسة الخارجية الصيني وانغ يي القادم من مؤتمر ميونيخ الأمني، يعرض على بوتين وثيقة بعنوان “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية” ستعلن في ذكرى اندلاع الحرب كمبادرة لإنهائها.
وأُعلنت الوثيقة في اليوم المحدد، لكن الغرب والشرق كانا على اطلاع مسبق في شأن نقاطها الـ12 وتركيزها على مبدأ سيادة الدول ووحدة أراضيها وأخذ مخاوف روسيا في الاعتبار والتزام عدم اللجوء إلى السلاح النووي.
قيمة المبادرة الصينية أنها تأتي من الصين “الصديق الأكبر” لروسيا، ولا يمكن لموسكو أن تتجاهلها، بل ربما تحتاج إليها بشدة كمخرج، ولا يمكن لأوكرانيا غض الطرف عنها على رغم رفض بايدن العلني لها وتقليله من قيمتها.
خطة السلام الصينية هي بحسب الصحافة الروسية، أداة دبلوماسية بيد بكين لحل أزمة مستعصية عبر “حفاظها على صداقتها مع روسيا ومحاولة التقارب مع أميركا وأوروبا”.
وفي كل حال، لن يعرف مصير هذه الخطة إلا في ضوء التطورات المتلاحقة على أرض المعركة في انتظار مبادرات أخرى ربما تطرأ عشية زيارة الرئيس الصيني المقررة إلى موسكو بعد أسابيع عدة.