تونس الرائدة ضحية انقلابين في سلسلة “الثورات المغدورة”
بقلم: رفيق خوري

قدمت "ثورة الياسمين" النموذج السلمي للانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية والفضل للمجتمع المدني

النشرة الدولية –

هل كانت ثورات ما سمي “الربيع العربي” في العقد الماضي ثورات؟ هل هي “انتفاضات فشلت في أن تكون ثورات”، كما قال آصف بيات في كتاب “أيام الربيع العربي”؟ الآراء متعددة ومختلفة بالطبع. لينين قائد “الثورة الاشتراكية الكبرى” في روسيا عام 1917 قال “الثورة هي انتفاضة غالبة، والانتفاضة هي ثورة مغلوبة”. وقبله وقبل ماركس قال هيغل إن “التاريخ هو الحكم النهائي”، لكن الحكم الحقيقي الواقعي على أية ثورة هو بناء أو عدم بناء دولة تحقق شعارات الثورة. ومرور عقد على ثورات الربيع العربي كشف عن الحقائق وراء الوقائع الصادمة. وأكبر صدمة في تونس.

“ثورة الياسمين” في تونس كانت الرائدة في ذلك الربيع، ليس فقط لأنها الأولى في السلسلة التي ظهرت حلقاتها في ليبيا ومصر وسوريا واليمن، وفي مرحلة ثانية في السودان والعراق، بل أيضاً لأنها قدمت النموذج السلمي للانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، والفضل للمجتمع المدني الذي بناه الرئيس الحبيب بورقيبة، ولما سماه الرئيس الباجي قائد السبسي في كتاب “القمح والتبن: حظ تونس”، وهو “عدم وجود جيش كبير”. فهي كرست تجربة التحالف الديمقراطي بين أحزاب مختلفة في إدارة السلطة. وبرلمانها أنتج أرقى دستور في المنطقة.

لكن الانتكاسات كانت في انتظارها، وأهمها العجز عن إيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والبطالة لدى الشباب، لا سيما المتخرج في الجامعات. وهذه كانت من الأسباب الأساسية للثورة التي جاءت شرارتها من إحراق البوعزيزي نفسه، ثم تعرضت لانقلابين: الأول تصميم “حركة النهضة” بزعامة راشد الغنوشي المرتبطة بـ”الإخوان المسلمين” على السطو على الثورة والسلطة وإدارة تنظيم سري إرهابي في الداخل والخارج. والثاني هو انقلاب الرئيس قيس سعيد على النظام البرلماني والأحزاب بداعي الحرص على ضرب الفساد وبناء الدولة وتعديل الدستور للانتقال من فوضى النظام البرلماني إلى ضبط النظام الرئاسي.

وفي البدء كان “اتحاد الشغل” وعدد مهم من الأحزاب إلى جانب الرأي العام من مؤيدي خطوته، لكن الرئيس الذي أراد أن يحكم منفرداً تورط في تجربة صعبة جداً. فهو أجرى انتخابات خارج الأحزاب، فلم يمارس حق الاقتراع من الناخبين سوى 11 في المئة. وبدأ رحلة المحاكمات والاعتقالات والإقالات التي شملت رؤساء أحزاب وقضاة وإعلاميين ومحامين، حيث صارت أكثرية الأحزاب ضدها. ومنطقه هو أن بناء حياة ديمقراطية فعلية بلا فساد ومحاصصة يحتاج إلى “مستبد عادل” كان، ولا يزال، يطالب به الذين يعانون الفوضى. وهذا منطق خاطئ عملياً. فالمستبد العادل يبدأ عادلاً، ثم يصبح مستبداً فقط. هكذا علمنا التاريخ. وهذا ما حدث مع إيفان الرهيب الذي بدأ عادلاً، ثم انتقل إلى أقصى الاستبداد، حيث أمر بتقطيع فيل لأنه مر أمامه في حديقة القصر من دون أن يحييه.

والواقع أن ثورات الربيع انتهت إما “ثورات مغدورة”، وإما انقلابات عسكرية تسمي نفسها ثورات. ثورة ليبيا صارت مجرد فوضى مسلحة حزبية وجهوية وميليشياوية، تدعمها قوى خارجية. ثورة مصر سطا عليها “الإخوان المسلمون” قبل أن يعيدها الجيش ويسترد الأمانة التي حملها منذ عام 1952.

“ثورة تشرين” في العراق قضت عليها الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني. ثورة اليمن تعرضت لانقلاب حوثي وحرب. ثورة سوريا السلمية صارت حرباً تدخلت فيها مباشرة قوى إقليمية ودولية وتقاسمت النفوذ على الأرض في أربع مناطق. ثورة السودان الشعبية السلمية دعمها العسكر في التخلص من حكم البشير و”الإخوان المسلمين”، ثم انقلب عليها العسكر. ولا شيء يوحي، على رغم “الاتفاق الإطاري” الأخير أن الجيش ينوي التخلي عن السلطة الفعلية للمدنيين.

يقول سونر كاغاتباي في كتاب “سلطان في خريف” إن “أردوغان يواجه قوى تركية لا يستطيع احتواءها. فهو أوتوقراطي يحكم ديمقراطية. نجاحه في تحويل البلد من نظام برلماني إلى نظام رئاسي هو فخ وقع فيه. المعارضون تجمعوا لإطاحته عام 2023. ومركزة السلطة أبعدت عنه معظم رفاقه”. أليس بعض هذا ما قادت إليه تجربة الرئيس قيس سعيد في تونس؟

Back to top button