إنجازات وثغرات إدارة ترمب في الشرق الأوسط
بقلم: وليد فارس
من أبرز قرارات الرئيس السابق كان قرار سحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018
النشرة الدولية –
لقد حللتُ أجندات وخطط السياسات الخارجية لإدارتي باراك أوباما وجو بايدن مرات عديدة في مقالاتي، ومقابلاتي الاعلامية، وأخيراً في كتابي الجديد “إيران، الجمهورية الإمبريالية والسياسة الخارجية الأميركية”، وركزت على ما اعتبرته سياسات خاطئة للإدارتين تجاه الشرق الأوسط، محملاً مسؤولية تلك الأخطاء الاستراتيجية لضغوطات اللوبي الإيراني و”الإخواني” خلال الفترتين الرئاسيتين. وأجريت التقييمات بعيداً عن ثقافة التهجمات الشخصية والشيطنة التي تمارس في السياسات الأميركية الداخلية. وركزت فقط على الأجندات والاستراتيجيات والقرارات المتعلقة بالشرق الأوسط ومناطق أخرى، فوجدت ما وجدت، واستخلصت ما استخلصت، وانتهيت إلى أن سياسات إدارتي أوباما وبايدن لم تأتِ بالأمن والاستقرار إلى المنطقة بغض النظر عن حسن النوايا أو عدمها. ولكن بالوقت نفسه، هذا لم يعنِ برأيي أن سياسات الإدارات الجمهورية، بخاصة إدارتي جورج بوش ودونالد ترمب، كانت معصومة عن الأخطاء، فقراءتي للإدارتين المذكورتين وصلت إلى خلاصات تشير إلى أن الجمهوريين كانوا يسيرون في الاتجاهات الصحيحة ولكن بوسائل ضعيفة وبطيئة، بينما الديموقراطيون كانوا يسيرون في الاتجاهات الخاطئة ولكن بوسائل سريعة وقوية. لذلك من المفيد تاريخياً، وللقراء، أن ألخص ما اعتبرها إنجازات، وأيضاً أخطاء، لإدارة دونالد ترمب القصيرة العمر ولكن الحافلة بالتحركات، بخاصة أن احتمال عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض واردة ولو أن من المبكر التنبؤ بذلك. فما الملفات التي نجحت فيها هذه الإدارة، وتلك التي كان فيها تقصير، بخاصة في ما يتعلق بسياسات واشنطن تجاه الصراعات الكبرى في المنطقة؟ ولا بدّ أن أشير مهنياً إلى أنني أكتب هذا المقال وأنا على بينة أعمق، لأنني شاركت في حملة ترمب الرئاسية في عام 2016 كمستشار، وتابعت الملفات المتعلقة بالشرق الأوسط، وبالتالي، بإمكاني أن أقارن الخطط وما نفّذ أو لم ينفذ منها، وربما الأهم معرفة كيف اتخذت القرارات، ومن أين حصلت الأخطاء.
المواجهة مع إيران
ومن أبرز القرارات المتعلقة بالشرق الأوسط للرئيس ترمب كان قرار سحب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الايراني عام 2018، على رغم المعارضة الشرسة لإدارته التي شارك فيها اللوبي الإيراني، وعلى رغم تداعيات التحقيقات المتعلقة بالاتهام “بالتعاون مع الروس”. هذا القرار كان ربما ثاني أهم قرار بعد إطلاقه للشراكة الأميركية مع التحالف العربي في عام 2017. فقد شكل الانسحاب ضربة قاسية للنظام في طهران وتحدياً كبيراً لشركاء الاتفاق الأوروبيين الذين عانوا من تداعيات العقوبات الاقتصادية، وبالطبع ردت القوى السياسية المعارضة داخل أميركا، المؤيدة لمعسكر أوباما – بايدن، بحملات لعزل ترمب وإخراجه من البيت الأبيض. إلا أن الرئيس السابق استمر بسياسته الثابتة لردع إيران وصعّد، فوضع “الباسدران” (الحرس الثوري) على لائحة الإرهاب عام 2019 بعد أن كانت إدارته قد أدرجت الحوثيين على اللائحة من قبل، ما أدى إلى ردة فعل أكبر لدى معسكر معارضته التي دعمها لوبي الاتفاق، فبدا ترمب وكأنه يقاتل على جبهتين، جبهة أمامية على خط السياسة الخارجية حيث تقدم على إيران، وجبهة خلفية في عقر داره في واشنطن حيث تقدم اللوبي ضده، وجاءت ضربته الأكبر على الأرض في المنطقة عندما أمر بالرد على هجمات الميليشيات في العراق وسوريا والتنسيق مع إسرائيل لقطع إمدادات الصواريخ البالستية لـ “حزب الله”. وكان أكبر الردود التي أمرتها إدارته بتصفية قائد قوة القدس (قاسم سليماني) وزعماء ميليشيات عراقية تأتمر بطهران في يناير (كانون الثاني) 2020، في آخر سنة من رئاسته، وقامت قيامة المعارضة واللوبي، وشنوا احتجاجاتهم العنيفة المعروفة خلال صيف 2020، وصولاً إلى الفوضى التي سبقت الانتخابات في نوفمبر (تشرين الثاني). هكذا، صمد ترمب أمام ضغط اللوبي الإيراني وسدد ضرباته على الأرض، ووفر القواعد والقرارات التنفيذية من داخل واشنطن، ويمكن وصف هذه القرارات بإنجازات في الملف الإيراني بالمقارنة مع سلفه أوباما.
ولكن كانت هناك ثغرات في الاستراتيجية العامة للإدارة في مواجهتها إيران، أتى معظمها من تأثيرات بعض المستشارين والمسؤولين من حوله، وفي بعض الأحيان من ضغط اللوبي على بعضهم، ومن بعض “التقصير” في الملف الإيراني في عهد ترمب سلسلة هفوات ناجمة عن عدم اتخاذ القرارات المهمة لحسم الملف الذي كان يتقدم. فبعض المحيطين بالرئيس لم يحسنوا إقناعه بخطوات إضافية لما قام به بأربع سنوات، ليحققوا النصر النهائي لأميركا وحلفائها. ومن بين التقصير ما يلي:
أولاً، لم تنسحب إدارته من الاتفاق إلا في السنة الثانية لفترته الرئاسية، ما أطال استفادة النظام واللوبي من المدخول.
ثانياً، تأخرت وزارة خارجيته، سنتين، قبل أن تطلق التحالف الدولي لعزل طهران من اجتماع وارسو.
ثالثاً، وربما أكبر خطأ استراتيجي، أن البنتاغون لم يقفل الحدود العراقية – السورية بشكل كامل لقطع الإمدادات بين إيران ودمشق و”حزب الله” في لبنان. فعلى رغم مواجهة الميليشيات الإيرانية في المنطقة، فإن عدم ربط منطقة التنف بالحسكة بين العراق وسوريا أدى إلى ضياع معظم الجهود المبذولة، أما الخطأ الاستراتيجي الأكبر على صعيد الداخل الإيراني، فكان بعدم دعم المعارضة الإيرانية أو الاعتراف الرسمي بها، ولا سيما خلال انتفاضة خريف 2019 الشعبية، وكانت فرصة هائلة أضاعتها الإدارة، فاكتفى الوزير مايك بومبيو (وزير الخارجية السابق) بالتغريد، بينما قمعت قوات النظام التظاهرات التي دامت ثلاثة أشهر. فنجح ترمب في مواجهته إيران بينما قصرت بيروقراطيته في حسمها.
مواجهة الإسلامويين
خلال حملة 2016، وعبر خطابات عدة إبان فترة الإدارة، التزم المرشح ترمب، ومن ثم كرئيس، بمواجهة “التيارات المتطرفة الإسلاموية” أينما كانت، بخاصة في الشرق الأوسط، وأطلق حملة ضخمة لإنهاء “خلافة داعش” في العراق وسوريا، وبالفعل، حصر رقعة “الخلافة الداعشية” إلى بعض البقع الصغيرة في البلدين. ووسعت وزارات إدارته حملاتها في مناطق عدة بمطاردة الإرهابيين وخلاياهم. وربما كانت قمة الرياض حدثاً تاريخياً حيث وقف رئيس أميركي أمام 50 زعيماً عربياً ومسلماً، في مايو (أيار) 2017، وحضّهم على الوقوف بعزم أمام المد المتطرف الإسلاموي كما الخميني، وبذل الجهود القصوى في مواجهة الأيديولوجيات الراديكالية. وشاركت إدارة ترمب في إطلاق مشروع مركز مواجهة التطرف في الرياض في العام نفسه.
فتميزت فترة رئاسته بالوضوح الخطابي تجاه التطرف والراديكالية، وأسست لمرحلة جديدة في التحالف مع قوى التغيير والإصلاح في العالم العربي والإسلامي. وعلى هذا الأساس، انطلقت المنصة التي أدت إلى انطلاق المسيرة للوصول الى توقيع “معاهدة أبراهام” كقاعدة للسلام والتعاون الإقليمي.
على هذا المحور أيضاً نجح ترمب في إنجازات التأسيس لمرحلة اعتدال وازدهار في المنطقة، ولكن بعض أوساط بيروقراطيته لم تحسن ترجمة هذه الأجندة إلى وقائع ملموسة على الأرض وأهمها ما يلي: أولاً، كان ترمب قد وعد بوضع حد لـ “الميليشيات الإخوانية” ولشبكاتها المتطرفة، ووصل إلى حد التزامه بوضع بعضها على لائحة الإرهاب، وطلب تقريراً من إدارته لدراسة هذا الإجراء، وفشل مستشاروه وخبراؤه بوضع ملف يحسم النقاط القانونية. وتبين أن اللوبي الإسلاموي في واشنطن كان له تأثير في الموضوع. أما على أرض الواقع في الشرق الأوسط، فقد أدت سياسة عدم مواجهة التيارات المتطرفة قانونياً وسياسياً إلى استمرار وتعاظم نفوذ الميليشيات والحركات “الإخوانية” في العالم العربي، من ليبيا إلى تونس واليمن، وطبعاً في سوريا. واستمرت أجزاء من البيروقراطية، وبتناقض مع خطاب إدارة ترمب، بالتواصل والتبادل مع هذه التيارات في المنطقة على حساب القوى والحكومات الحليفة كمصر والسعودية والإمارات وتونس والأردن وإسرائيل، فإذا بشرائح من بيروقراطية الرئيس السابق تتعاون مع أعداء إدارته لتنفيس سياسات الإدارة العليا ما أدى إلى ثغرات غير مسبوقة لم تحصل لا مع إدارة أوباما ولا مع إدارة بوش.
الخلاصة
في الخلاصة، وعلى رغم تلك الثغرات الغريبة العجيبة، وفي جردة الحساب الشاملة، أنجز ترمب تغييرات مهمة في سياسة واشنطن تجاه الشرق الأوسط، لا سيما في الاتجاهات العامة، ولكن بعض الحلقات القريبة منه نسفت النجاح الكامل لهذه الملفات بعدم إكمالها الخطوات. ويعتبر البعض أن التركيبة الأميركية السياسية هي كحصان هائج لا يحسن امتطاءه إلا من مارس العمل مع البيروقراطيات الإدارية وله خبرة حيالها، ويصعب على من يثب مباشرة من القطاع الخاص إلى العام إلى هكذا مركز أن يجيد ضبط إيقاعها، فتهز أجندته إذا لم تلائم أجندتها، ويعتبر هذا البعض أن الثغرات التي أحدثتها بعض حلقات البيروقراطية الموروثة، بالإضافة إلى قلة خبرة بعض مستشاريه، أدت إلى هكذا واقع. إلا أنه إذا قدّر لترمب أن يعود، أو أن يصل جمهوري يؤمن بالأجندة نفسها، فستتراجع الثغرات لصالح الإنجازات، ولكن ذلك يقرره الناخبون وليس المحللون.